ساق الحرب

د. قصي الحسين

يرى الباحث الفرنسي المتميز في العلوم الاجتماعيّة “آلان تورين” أن مشروع الحداثة، إنما نهض على بناء صورة عقلانية للعالم الذي يدمج الإنسان بالطبيعة. وأن المجتمع الحديث، إنما ينهض أيضاً على مبدأين أساسيين: 1- النشاط العقلي. 2- الاعتراف بالحقوق العامة لكل الأفراد. وهذان المبدآن معاً، إنما يحددان الحداثة.

وبالاستناد إلى ذلك، يصبح بالإمكان، إعادة تقييم عالم اليوم، وإيجاد حلول، تسمح لهذا العالم المعاصر، بالخروج من حالة القلق على مستقبل الإنسانية اليوم وغداً. ذلك أن وتائر القلق، أخذت تتسارع، بسبب أمرين أساسيين: 1- تغول الأسواق. 2- انتشار العنف والحروب والإرهاب والنهوض على ساق الحرب بسبب من الإغداق على إنتاج معامل السلاح الجديد.

في الواقع استفاق لبنان في الستينيات من القرن الماضي، على قيم الحداثة الّتي بشرت بالعدالة والمساواة الاجتماعيّة وسيادة العقلانية، خصوصاً مع تنامي التفكير العلميّ والعقلاني، والانتصار لقيم التحرر الاجتماعي، ونبذ كل أشكال التقليد والعنف في أواخر القرن التاسع عشر ومطلع القرن العشرين.

وبالرغم من تأسيس لبنان ما بعد الاستقلال على هذه الأسس، الّتي اعتبرت من نتائج التطور الطبيعي للمجتمع أو الوطن الحديث، فإنه سرعان ما أخفق فيه مشروع الحداثة، بحيث لم يحقق مبتغاه، من التطور والازدهار وتوفير أسباب السعادة والرفاه والمدنية للبنانيين، بالرغم من الدور العظيم الذي قامت به الجاليات التبشيرية التنويرية بمدارسها وجامعاتها ومراكزها ومعاهدها، وخصوصًا منها الجامعات الوطنية اليسوعية والجامعة الأميركية والجامعة العربيّة، والجامعة اللبنانية الرسمية. إ ذ سرعان ما جرى انحراف الحداثة عن مشروعها التنويري في لبنان بعد عقد أو أكثر أقل في لبنان لصالح العسكرة وإحداث جبهات القتال.

ولم تلبث أن سادت قيم الصراع المطلق بين الأفراد والجماعات وبرز مشروع هذه الفكرة بوضوح، مما جعل اللبنانيين أن يستمروا أن يستثمروا بشكل غير معقول وغير مقبول، وبدرجات رهيبة، في التسلح. وتطور البحث التقني بين اللبنانيين، للتفتيش، عن سوق السلاح، وطلب الأسلحة النوعية الّتي لا تكون عادة إلاّ في عهدة الجيوش: من رشاشات ومدافع وراجمات صواريخ ودبابات. ومد الأيدي والأذرع إلى خارج حدود الوطن الصغير، الكبير بفضل الجنرال غورو العام 1920 لطلب السلاح النوعي، والقنابل النوعية والرؤوس النوعية، والفرق الحربية النوعية. بالإضافة إلى استغلال فظيع للبيئة بجبالها وأوديتها وحدودها وسواحلها وموانئها، وهدم المشروع الحداثي التنويري الطري العود،الذي لم يمضِ عليه بعد سوى بعض عقد من الزمن أو يزيد.

وبدأ ذلك وعلى حساب التنوير والحداثة، مشروع الهدم وبات ما يعرفه اللبنانيون وما يعيشونه، هو تهدم المجتمع. أي تهدم الرؤية الاجتماعيّة للحياة الاجتماعيّة، بل تهدم مجموعة الأبحاث والدراسات والمشاريع الّتي كان اللبنانيون يتحصنون وراءها، منذ أكثر من قرن، في مدارسهم وجامعاتهم وأنديتهم وإداراتهم ومجالسهم والقصور الرئاسية والمراكز والمعاهد الحديثة، الغربية منها واللبنانية.

وبدأنا نرى المجتمعات اللبنانية تنهار بأمها وبأبيها من حولنا. وتوقفت الحركة الاجتماعيّة الخدماتية السلمية الأهداف، وأخذت بالتلاشي شيئاً فشيئاً، حتّى غابت بالكلية عن الوجود في معظم المدن والقرى اللبنانية، بعدما أعطتنا ديناميتها في السابق، للتقدم على جميع الدول، أقله في الجوار الاقليمي والعربي.

ومن الطبيعي أن لا يرى كثيرون منا، سوى أنقاض بناء عظيم جداً لو استمر في البقاء والنهوض والاندفاع، لكان للبنانيين حياة، غير الحياة الّتي يعرفونها اليوم، ويذوقون فيها كاسات الهوان والعذاب والذل والارتهان.

وبعد مصالحة الجبل الّتي رعاها الزعيم الوطني النائب وليد جنبلاط وغبطة البطريرك صفير العام 2012، عرف اللبنانيون بعض حلاوة العودة إلى السلم الأهلي. ثمّ تأكد ذلك بعد الزيارة الّتي قام بها البطريرك بشارة الراعي والمفتي عبد اللطيف دريان إلى الجبل والمختارة. غير أننا نرى اليوم بعضاً من الاهتزاز، يوشي بالعودة إلى الماضي. وأخشى ما نخشاه العودة إلى العنف والحرب، بعد انتصار السوق على العمل والخلق. إذ لم يعد تاريخ لبنان يتحدد بوجهة سيره ونقطة وصوله المحتملة، ولا بروح عصر أو شعب، بل بتصارع قوى طبيعية موجودة، هي قوى الاستثمار في السواق والحروب والكوارث ولو مع الحداثة أو مع الذات الفاعلة.

فهل تؤدي مثل هذه القضايا، إلى ظهور أزمة ضمير عند اللبنانيين، وإعادة النظر في الأفكار والمفاهيم العلميّة والأكاديمية، الّتي أسست في المرحلة السابقة، أيّ مرحلة الحداثة النهضوية، الّتي قامت على ساق من العلم والمعرفة ، مرحلة الحداثة المدرسية، والأكاديمية والجامعية والعمل والإنتاج والبناء والعمران.

إن الانتقال من مرحلة العسكرة والفوضى واستنهاض ساق الحرب، إلى مرحلة الحداثة البنيانية العمرانية النهضوية الإنسانية، إنما تتطلب منا جميعاً وعي حدود البرزخ والفراغ الدولي فوقه. وأن ذلك يتطلب الكثير من التعمق في الرؤيا والمعرفة، للنهوض بالوطن على ساق من العمل والأمل، لا على ساق الحرب وإزالة أسباب العوائق، وجميع أشكال المعيقات.

* أستاذ في الجامعة اللبنانية

اقرأ أيضاً بقلم د. قصي الحسين

كمال جنبلاط البيئي وإلتقاط البرهة!

مجتمع البستنة

الدكتور اسكندر بشير التجربة والرؤيا الإدارية

جائزة إدلب

جميل ملاعب والقدس: تأبيد الرؤيويات البصرية

جسر السلام: ثوابت كمال جنبلاط الفلسطينية التاريخيّة

القتل السري عن كمال جنبلاط والقتل السياسي

حين السياسة بمفعول رجعي

ترامب والتربح من الصفقات

عن النظام يأكل أبناءه الفوعة وكفريا نموذجاً

مصطفى فروخ وطريقه إلى الفن

 الرئيس القوي

 د. حسين كنعان وأركيولوجيا القيافة والثقافة والسياسة

 ضياء تلك الأيام

 عن كمال جنبلاط والفرح بالعمل

 تتجير السلطة

تيمور جنبلاط بصحبة والده في السعودية زيارة تاريخية إحيائية

 كوفية تيمور ومليونية القدس وجه آخر للاضطهاد والإحتلال

تجديد “نسب الخيل لابن الكلبي” ونسخ لمخطوطاته التراثية الثلاث

عاميات عبد الحميد بعلبكي في “حديث الشيخوخة”