جميل ملاعب والقدس: تأبيد الرؤيويات البصرية

د. قصي الحسين

أختار الفنان التشكيلي جميل ملاعب القدس عنوانا لمعرضه بين أيلول وتشرين الأول. بل موضوعا لمعرضه، كما رأيت أنا، وكما رأى غيري ممن زاروا معرضه. وأختار “كاليري جانين ربيز” أسما ومساحة للعرض. أشتغل على تاريخ القدس، لتأبيد الرؤيويات البصرية، فبدت القبة الزرقاء، قبة سماء بأكملها، غير قابلة للتهويد.

أضاف جميل ملاعب ألى خياره الفني، خيارا أخر يعضده. كاليري جانين ربيز. فتاريخ هذة السيدة يعاند الزمن أيضا. سيرة فنية، ومسيرةنضالية وسياسية وأجتماعية، ووجه تقدمي، لا يمحوه الدهر. وجه عصي في ساحات لبنان التاريخية: فنا وسياسة ونضالا ومهرجانات.

جدل جميل ملاعب بين فنه والقدس. ثم جدل بين فنه والقدس وجانين ربيز، ليكون أقوى، حين يصرخ فنا في وجه “صفقة القرن”. وفي وجه عدوه نتنياهو، وفي وجه السيد الرئيس دونالد ترامب أيضا. ليكون أقوى حين يصرخ “لا” للتهويد، ويجعل القدس عين معرضه، ويجعل من معرضه في كاليري جانين ربيز، قبة، قدسا، عينا تقاوم المخرز.

ذهب جميل ملاعب في معرض القدس، للتأبيد ضد التهويد. خط القدس خطا مؤبدا غير قابل للمحو. شعت القدس رؤى. وشعت الرؤى رؤيويات بصرية كثيرة، ملأى بها الزمان والمكان. أطفأ جمار التهويد في نبعة الألوان. وجرى وراء الظلم والظلام والمظالم والجرائم، بمقبوس بروميثيوس من نار اللون والحكمة والعرفان والتاريخ، فشعت القدس عروس العروبة والأنسان. وأنتصر جميل وجانين على الأسخريوطي الجبان.

معرض جميل ملاعب في “كاليري جانين ربيز”، معرض ذكر، ومعرض ذاكرة. معرض للروح فنا ونضالا بأمتياز. فنان من لبنان، يغالب الزمان. يستيقظ البشر والحجر والشجر. يستيقظ التراث والحداثة. يستيقظ القديم والجديد. يستيقظ الدهر: برهة برهة. يستيقظ الماء والطوفان. يستيقظ الزمان.

مع جميل ملاعب، نرى في أعماله كلها، يقظة الحواس. كيف لا، وهو الذي حول القدس بألوانه، حديقة من حواس.

يبهرنا، يفاجئنا، يدهشنا. ولكنه أيضا يأتينا. بنداء أو بدون نداء.هو الذي يصغي لنداء روحه، حتى هسيس الينابيع، تفلق الصخر، ليجعلها تجري في عروقه، وفي عيونه، وفي روحه، سيان.

ينزل من بلدته “بيصور”، مثل نوح. تحت أبطه سفينته. صنعها بعينيه، لتكون سفينة نجاة. خبأ فيها المنمنمات. خاف عليها من طوفان الدهر والتاريخ والقتل والتهويد، وتزوير الحضارات. ومن هولاكو وتيمورلنك. ومن نتنياهو وبوتين وترامب، ينزلون بالبلاد جلدا وتفتيتا وتهويدا.
وحده جميل ملاعب، يعيد تشكيل المقدسات ويصون المقدسيات، ويبني التاريخ العربي والأسلامي، جدارية جدارية.
يأخذ القدس عينا له. عينا لمنمنمات، عينا لفنه، عينا لموضوعاته وأعماله. بل عينا لمعرضه كله من الفه ألى بائه.

يستقبل زائره ويختصر: القدس عين الفن، في برهة الصراع الساخنة مع العدو. في برهة “صفقة القرن”. في برهة التأبيد على التهويد.

معرض القدس في كاليري جانين ربيز، تأبيد لذاكرة فلسطين. تأبيد لذاكرتها الثقافية، ولتاريخها الطويل مع الأعداء والمستعمرين والمتأمرين، قدماء وجدد، لا فرق…

وفي مواجهة العواصف الكيانية الخطيرة، يقف جميل ملاعب التشكيلي الرائع والانسان الرؤيوي العميق، في بعده السياسي والثقافي والحضاري، ليلاقي السيدة جانين ربيز، وما تركته من أرث، كمساحة، كمعرض، للحرية والتقدمية والحياة المدنية. بل كمعرض للهواء والشمس، بين زرقتين: زرقة البحر، بل زرقة المتوسط، على كورنيش الروشة المهيب؛ وزرقة السماء، حين تشتد شمس الهاجرة، وينتعل كل شيء ظله.

معرض القدس لجميل ملاعب، في كاليري جانين ربيز، شمس وحرية. بل رؤيويات حضارية وثقافية وأنسانية، تتحول بالألوان وبالتشكيل، ألى كيفيات أستيعاب لتحديات الأعداء القدماء والمستعمرين الجدد.

تراه لا يهتم بالأرث وبالماضي، ألا بمقدار ما يصنع بعيونه وبألوانه، أبداعات الحاضر التي تحفز الأفكار وتطرح الأسئلة، وتحرض لملاقاة الشمس والهواء والحرية.

ومتحف جميل ملاعب في بلدته بيصور، في قضاء عاليه، بأزاء سوق الغرب وكيفون ودير قوبل، صنع عينيه.

جدد نوحا في شخصه، وجدد سفينته في متحفه، وأرساه قبالة الوديان والجنائن والجنات، والمساحات الخضراء، كتعبير متكامل، في أطار عمل متكامل، لوحدة الأنسان والقضية والفنان، تحت شمس الجبل المتشح بالغيوم، وتحت مركب القمر المسافر دائما بين التلال والنجوم.

*أستاذ في الجامعة اللبنانية

اقرأ أيضاً بقلم د. قصي الحسين

كمال جنبلاط البيئي وإلتقاط البرهة!

مجتمع البستنة

الدكتور اسكندر بشير التجربة والرؤيا الإدارية

 ساق الحرب

جائزة إدلب

جسر السلام: ثوابت كمال جنبلاط الفلسطينية التاريخيّة

القتل السري عن كمال جنبلاط والقتل السياسي

حين السياسة بمفعول رجعي

ترامب والتربح من الصفقات

عن النظام يأكل أبناءه الفوعة وكفريا نموذجاً

مصطفى فروخ وطريقه إلى الفن

 الرئيس القوي

 د. حسين كنعان وأركيولوجيا القيافة والثقافة والسياسة

 ضياء تلك الأيام

 عن كمال جنبلاط والفرح بالعمل

 تتجير السلطة

تيمور جنبلاط بصحبة والده في السعودية زيارة تاريخية إحيائية

 كوفية تيمور ومليونية القدس وجه آخر للاضطهاد والإحتلال

تجديد “نسب الخيل لابن الكلبي” ونسخ لمخطوطاته التراثية الثلاث

عاميات عبد الحميد بعلبكي في “حديث الشيخوخة”