أبناء المَرَض/ بقلم ألحان الجردي

تأخذ وتيرة الزمن بالتسارع يوماً بعد يوم حتى بِتنا نشعر أنّنا في سباق مع قِوى تستنزف طاقاتنا الحياتية، نبذل يومياً جهوداً مضاعفة سعياً وراء أهدافٍ لا تنتهي، فما أن نلبّي هدفاً حتى ينبثق آخر من حيث لا ندري.

إنها أهداف قائمة على إشباع رغبات نفسيّة، ومواكبة مظاهر إجتماعية تنتشر كالعدوى بين الناس، أُوَليست حياتنا مُشابهة للفيروس المُعدي والمُتكاثر بسرعة فائقة؟
كم من الأهداف والغايات التي نبذل جهوداً مُضنية لتحقيقها، هي في الحقيقة نابعة من الحاجة القهرية لمواكبة متطلّبات المجتمع؟

نحن اليوم إذا استطعنا التوقّف للحظة واحدة عن الجري واللّهاث خلف المتطلّبات الإقتصادية والنفسية والإجتماعية المُنبثقة من مصادر مجهولة الهوية، لُعلِمنا أنّنا لسنا سِوى آلات مُبرمجة للقيام بمهام محدّدة.
إنّ العصر المُتقدّم الذي نحيا فيه اليوم، نَما وتغذّى من خلال امتصاص كافّة أشكال إنسانيّتنا، فغدونا آلات ذات أشلاء إنسانية محطّمة، قد يُقال إنها نظرة مبالغة في التشاؤم والسوداوية، قد يكون ذلك صحيحاً وقد لا يكون، لكن الحقيقة التي لا يستطيع أيّ منّا إنكارها أنّنا شعب مقيّد، ونحن مَن قمنا بتكبيل أنفسنا.

نحن مُقيّدون بسلاسل الحاجات الإجتماعية والإقتصادية والنفسية، ومُكبّلون بأغلال المظاهر والتكنولوجيا والإعلام والإستهلاك.

هناك مَثَل قديم نعرفه جميعاً “على قد بساطك مدّ رجليك” نحن اليوم نفعل عكس ذلك تماماً، بحيث نمدّ جميع أطرافنا في كافّة الإتجاهات دون أن نُعير انتباهاً لحدود البِساط الحامِل لأمانِنا.

نحن نستدين من المصارف ونعمل بأكثر من عمل لسدّ إحتياجات نُؤمن أنها أساسية ولا يمكن الإستغناء عنها، فنشتري لأنفسنا ولبيوتنا ولأولادنا كل ما هو متوافر في أسواق التقدّم والتكنولوجيا، ومَن يلتزم بذلك المَثَل القديم يوصَم بالرجعيّة والتخلّف وقلّة الطموح.

أبناؤنا اليوم هم أولاد التكنولوجيا والعلم، يتعلّمون بسرعة إستخدام جميع الوسائل التكنولوجية، ينضجون سريعاً ويُدركون الكثير من الأمور في عمر مُبكِر.

مَن منكم قادر على إبعاد ولده عن شاشة الكمبيوتر أو منعه من قضاء ساعات طوال مع ألعاب الفيديو والإنترنت، بل قد يكون ذلك مُريحاً للأهل بحيث يلتهي الأولاد بهذه الآلات عن إزعاجهم، لأنَّ الآباء لم يعد لديهم لا الوقت ولا الطاقة للتواصل مع أولادهم.

ألا يواجه معظمكم نوبات هيستيرية من الأبناء عند محاولة إبعادهم عن الإنترنت أو لعبة الفيديو؟
ألا يعاني ولدكم أزمة نفسية في حال امتناعكم عن شراء الـ I pad له إسوةً بزملائه؟

ألا يعيش معظمكم نوبات غضب عديدة خلال اليوم الواحد؟

أليس التوتر والقلق من أكثر المشاعر التي ترافق حياتنا؟
ألا تنتهي أغلب النقاشات مع أولادكم وأزواجكم بالغضب والصراخ وتبادل السلبيّات؟

أليست النرجيلة والسيجارة والتسوّق المُفرط والإسراف بالطعام والشراب مِن أكثر الأمور التي تشعركم بالراحة؟
إذا حاولنا التفكير مَليّاً بهذه الأمور نجد أنها أعراض لحالات مرضيّة، نحن شعب مريض يحاول التخفيف من آلامه بالغضب والقِتال والنقد اللاذع والإسراف بالإستهلاك، وقضاء الوقت مع الآلات الخالية من الإحساس لعدم القدرة على التواصل.

أولادنا اليوم هم أبناء المَرَض وأبناء الآلة التي لا تتوقّف إلا عند تحقيق المَهام التي بُرمِجَت للقيام بها.
لكن هل من سبيل لغيير هذا الواقع المريض؟
سؤال يطرح نفسه فقط في حال الإعتراف بوجود المرض، لكن في حال اعتبار المرض أمراً طبيعياً فلا يعود هناك من داعٍ لطرح السؤال.

مَن يقوم منكم بطرح هذا السؤال فهو شاعرٌ بمرضه ويسعى للشفاء، والحقيقة أنّ الشفاء ليس بيد أحد سِوى أنفسنا، فمشاكلنا من صُنع أيدينا وكذلك حلّها.

نحن القادرون على شفاء أنفسنا، وذلك من خلال العمل على إعادة برمجة أدمغتنا بما تحمل من أفكار ومعتقدات مقرونة بمشاعر وإنفعالات وعادات سلوكيّة.

إنّ استكمال العيش بالعادات المُكتسبة والبرمجة التلقائية الإجتماعية هو أمر ويسير، رغم جميع الأعراض المرضيّة، لكن إختيار درب الشفاء وإعادة البرمجة لَهوَ من الأمور الشاقّة والتي تستلزم وقتاً وجهداً، فَمَن يختار هذا الدرب عليه أن يتعلّم الحياة وكيفيّة عيشِها من جديد، مثلما يتعلّم الطفل الصغير كيف يقرأ.