«عالم مُتغيّر» يطرح على روسيا أزمة خيارات

د. بهاء أبو كروم (الحياة)

جملة نقاشات وحوارات تسلّط الضوء على حراك يجري وسط الفضاء الثقافي في روسيا ويهتم بضرورة تحديد الوجهة المُفيدة والمُجدية للأمة الروسية. وإن بدا أن هذا السؤال يأتي في غير سياقه نتيجة الصعود الروسي على الصعيد العالمي، بخاصة بعد تدخلها في سورية، إنما الذين يتابعون السياسات الروسية والإشكاليات التي تطرحها مراكز الأبحاث، يلاحظون تصاعد هذا النوع من النقاش في هذه الفترة بالذات.

لا شك أن روسيا في أيام فلاديمير بوتين تمتعت بقدرات هائلة من حيث إبداء مظاهر القوة والتحدي على الصعيد الدولي، متسلّحة بحملة دعائية جعلتها حاضرة في العقل الغربي كمنافس في إمكانه استحضار تجربة الاتحاد السوفياتي إنما بنمط مختلف، إلا أن ذلك تقف خلفه إرهاصات داخلية لا تزال تبحث عن الخيارات الكبرى والمُفيدة شأنها في ذلك شأن أي حضارة تتراكم في داخلها عناصر القوة وتبحث عن السبيل الأنجع لصرفها! بالتالي، فإن ذلك يستبطن نوعاً من التناقض بين الوجهة الحالية لروسيا وبين التطلعات أو الطموحات التقليدية للأمة الروسية في شكل عام.

هذا على المستوى الثقافي، أما في البعد السياسي فالسؤال يبقى عن الدوافع التي تفترض طرح ذلك في وقت تتقدم روسيا في تدخلها العسكري بعيداً من مجالها الحيوي التقليدي كما يُفترض أنها تراكم نفوذها تبعاً لهذا التدخل.

ثمة فجوة يمكن البحث عنها في المتغيّر بين أشكال الحكم والسلطة التي مرّت على روسيا، وأزعم أن الانتقال التاريخي من حقبة الإمبراطورية إلى الحقبة السوفياتية لم يكتنفه فراغ مركزي في العقل الروسي ولم تضع الخيارات عند الروس الذين يحملون إرثاً مترامياً بين القارتين، آسيا في الشرق وأوروبا في الغرب، وذلك بفعل الأيديولوجيا المتماسكة التي سدّت تلك الفراغات وتكفّلت حل عقدة الضياع بين قارتي آسيا وأوروبا بطرح الشيوعية والعالمية التي تتجاوز كل الجغرافيا وتحوّل المواطن السوفياتي إلى مُتجاوز لحدود المكان. روسيا الأيديولوجية لا يعوزها البحث عن خيارات أو هويات أو توجهات قومية، ولا تزعم أن العالم متغير من حولها بينما روسيا البراغماتية مُلزمة في البحث عن ذلك كله، بخاصة إذا شعرت بإخفاقات في السياسة الدولية.

طبعاً لم يجد الرئيس فلاديمير بوتين عندما ورث حقبة الرئيس بوريس يلتسن، مناصاً من تصليب الجبهة الشرقية كرد فعل على عبث الغرب بروسيا أيام يلتسن. كانت مهمّته إعادة الاعتبار الى الشخصية الروسية بعد انطواء حقبة الأيديولوجيا وانتصار نموذج الغرب. صعود القومية كان البديل المنطقي لإعادة الاعتبار تلك، وسؤال الهوية كان يقوم على تحشيد الإمكانات الداخلية ووقف تمدد الغرب إلى الداخل الروسي.

تجدّد النقاش مع بداية التحولات في العالم العربي عام 2011، حيث شعرت روسيا بأخطار الصعود الإسلامي في الشرق الأوسط، وخافت أن يطاولها التغيير. إلى أن قرّرت نقل معركتها إلى سورية في العام 2015.

يطرح رئيس مجلس السياسة الخارجية والدفاعية سيرغي كاراجانوف، واحدة من هذه الإشكاليات بالقول: «إذا كنا نفخر بجذورنا الآسيوية فسنفوز، والآن علينا أن نتعلم من آسيا لأن المستقبل موجود هناك»، ليدفع ذلك إلى سجال عمّا إذا كانت للروس جذور في آسيا أو في أوروبا وأيهما مفيد الذهاب إليه في هذه المرحلة. كاراجانوف ذاته كان نظر للتدخل في سورية باعتبار أنه يحوّل الأنظار عن أوكرانيا و»ينقل العلاقة مع الغرب إلى مستوى آخر». ومن ناحية ثانية، دعا نادي فالداي الى مؤتمر هذا الشهر تحت عنوان «جدول أعمال للقرن 21» يناقش في جلسته الافتتاحية إشكالية «الهوية الوطنية في عالم متغير». ويطرح ذلك إشكالية أكثر تعبيراً عن المأزق الذي تستشعره الثقافة الروسية في هذه المرحلة التي تطمح إلى أن تحسم خياراتها العميقة قبل التوجه إلى تحديد السياسات الخارجية، بخاصة أن العلاقة المتأرجحة مع الغرب وتفاقم أثر العقوبات يضعان الإدارة الروسية في موقف مساءلة عن جدوى خياراتها الاستراتيجية والبراغماتية.

وقد استغلّ بعض مراكز القرار الروسية مناسبة مرور 80 عاماً على «اتفاقية ميونيخ» التي أبرمت في 30 أيلول (سبتمبر) 1938، لكي يعكس حقيقة العلاقة مع الغرب خلال القرن الماضي، حيث تجاهلت الدول الغربية الاتحاد السوفياتي وعقدت اتفاقاً مع ألمانيا النازية لتقاسم تشيكوسلوفاكيا، وأعطتها حق الإشراف على منطقة السوديت التي يتحدث سكانها اللغة الألمانية، وذلك على رغم أن تشيكوسلوفاكيا كانت تجمعها معاهدة دفاع مع الاتحاد السوفياتي. لم تتم دعوة الاتحاد السوفياتي إلى المؤتمر الذي أطلق عليه الروس «خيانة» ميونيخ. استحضار هذه المناسبة ليس معزولاً عن الشعور العام بالخيبات المتتالية لروسيا في علاقاتها مع الغرب.

وليس أدل على ذلك مما عبر عنه وزير الخارجية الروسي سيرغي لافروف، عندما استغل توتر العلاقة مع إسرائيل نتيجة حادثة سقوط طائرة «إيل-20» لكي يدعو الولايات المتحدة إلى التحدث مع روسيا حول سياساتها في سورية.

تقليل الغرب من شأن روسيا وتجاهل دورها الإيجابي يفاقمان شعور الأوساط الثقافية الروسية بالخيبة، بخاصة أن الاستراتيجية الروسية تحصّن مصداقيتها عندما تصرف نفوذها في معادلة ميزان القوى مع الغرب تحديداً.

وفوق هذا وذاك، فإن الوجود في سورية طرح على الروس تحديات تتعلق بالقضايا الجوهرية. العلاقة مع الإسلام والمفاضلة بين مذاهبه في الشرق الأوسط، حماية إيران أو التفاهم على أسعار النفط مع المملكة العربية السعودية، الموقف من التنافس التقليدي بين الكنائس الشرقية والغربية، كيف يمكن إدارة التناقض بين إيران وإسرائيل وهل تعيد روسيا الاعتبار الى المسألة الشرقية من خلال انتدابها على سورية. لكل هذه القضايا حضورها، في شكل أو في آخر، في النقاش الروسي الداخلي ولا يمكن الأداء البراغماتي، مهما تذاكى، إلّا أن يصطدم بمعوقات من النوع الثقافي، وبالتالي عندما تشعر روسيا بأن العالم من حولها مُتغيّر إلى هذا الحد، فذلك يتصل بالتوازن في الوعي الداخلي ويعني الحاجة الى إعادة البحث في الخيارات!