الغزو اللغوي يقضي على اللغة العربية/ بقلم د. إيمان مرداس

وصفت اللغة بكائن حي ينمو ويتطور وينتج عنه ارتقاء روحي فكري وطني، على اعتبارها وعاء الفكر ومرآة الحضارة الحاضن لمفاهيمها وقيمها، وأداة طيعة لإفصاح الفرد عما في ذهنه، يشارك الآخرين تجاربه الخاصة وبذلك تنصهر هوية الفرد في هوية الجماعة.

لا يخفى على أحد أن حاضر اللغة العربية يُدمي القلب، ولا يخفى على أحد تهميشها وعدم الاهتمام بها، وتوقفها عن التطور بحجة عجزها على استيعاب المعارف العصرية، والمشكلة لا تكمن في قوة اللغة وقدرتها على مجاراة متطلبات العصر، بل في تخلف أبنائها وإدبارهم عنها وسعيهم للالتحاق بكل ما هو براق، نَؤوا بإرثهم الضخم، إرث العلماء العرب الذين برعوا في شتى العلوم الإنسانية والتطبيقية، التي وصلت إلى بقاع العالم بعد أن تُرجمت أعمالهم إلى لغات عدة.

نحن أمام غزو لغوي وغزو ثقافي نعيشه ونتفاعل معه ولا نحرك ساكنًا لا بل نشجعه ونشارك فيه، وهذا الغزو ليس حدثًا جديًدا أو طارئًا، بل يضرب في أعماق الماضي، فقد تعرضت اللغة العربية إلى هجمات متعددة، ويذهب البعض إلى القول أن أول انحرافاتها كانت مع دخول شعوب وأمم غير عربية إلى الإسلام، لكن العرب أدركوا ذلك وتصدوا لها بقوة من خلال المعاجم اللغوية التي حافظت على الألفاظ والمصطلحات دون تغيير أو تبديل، ويذهب البعض الآخر إلى أن الانحدار بدأ في ظل السيطرة العثمانية، عندما فرض الاتراك “سياسية التتريك” على الشعوب العربية، وعملوا على إعاقة اللغة العربية من التقدم، ومنعها من الممارسة في الحياة العملية، وتشعب هذا الانحدار تحت تأثير الاستعمار الغربي إلى حد يثير القلق والخوف الذي مازال مفعوله ساريًا إلى الوقت الحاضر.

وتفاقمت المخاطر المحدقة باللغة العربية وامتدت إلى مفاصل الحياة في عصر العولمة، وأصبح استخدام المصطلحات الأجنبية مـألوفًا حتى في الاجتماعات والمناسبات الرسمية، وصارت إجادة اللغات الأجنبية خاصة الإنكليزية منها إلزامية بوصفها لغة عالمية أو بمعنى أدق لغة دولة عظمى، وهذا لا يعني أننا ضد تعلم لغات أجنبية، بل ضد سيطرتها على الفكر والروح، ضد ممارستها اليومية والتحدث بها بشكل مفرط مع الناطقين بها وغير الناطقين، وقالها الزعيم الأفريقي الراحل نيلسون مانديلا يومًا: “لو تحدثت إلى شخص بلغة يفهمها يدخل حديثك رأسه، ولو تكلمت بلغته، يدخل حديثك قلبه”. بيد أن المضحك المبكي هاهُنا هو احتقار البعض للغتهم الأم، والتباهي بإتقان أولادهم أكثر من لغة مقابل إهمال الأساس. أما دور العلم فحدث بلا حرج،  إذ تم تقليص حصص مادة اللغة العربية في أغلبية الدول العربية مقابل زحف اللغة الإنكليزية، لا بل أصبحت من المواد الاختيارية في بعض الجامعات.

وهذه الظاهرة ليس لها مثيل في المجتمعات الإنسانية، أذ يحفل التاريخ بأمثلة الشعوب وسياسات الدول في المحافظة على لغتهم، الدول الأجنبية كبيرة أو صغيرة لا تَمنح جنسيتها للمهاجرين إلا إذا أتقنوا لغتها، وعندما شعر الفرنسيون أن لغتهم مهددة بالانحدار بعد الحرب العالمية الثانية، شكلوا رابطة “الفرانكوفونية” من الدول التي تتحدث الفرنسية والدول المستعمرة  فرنسيًا، كما شجعت فرنسا بقية الدول الأوروبية على تقوية لُغاتها ومقاومة زحف اللغة الإنكليزية لنطاقهم الجغرافي، وقد أصدرت هذه الدول ميثاقها الشهير المعروف باسم “الميثاق الأوروبي للغات” في إطار تعزيز وحماية اللغات الإقليمية والأقليات التاريخية، وضاعف الكوريون الاهتمام بلغاتهم بعد استقلالهم من الاحتلال الياباني الذي عمد إلى طمس الهوية الكورية، وعندما بدأت فكرة إنشاء وطن لليهود رفع أحد مفكريهم شعارًا “لا حياة لأمة دون لغة”، وفي المقابل الشعوب التي هُجرت إلى الدول العربية كالأكراد والشيشان والأرمن مازالوا متمسكين بلغتهم لا بل يفاخرون بها.

لا شك أن احتكاك اللغة مع لغات أخرى تؤثر فيها، ولكن ليس لدرجة الهيمنة والاقتداء بها، فالشعب يُستعبد عندما يُسلب منه اللسان الذي تركه له الأجداد، ونصبح كما قال ابن خلدون: “المغلوب مولع بالاقتداء بالغالب”.

اللغة العربية من أقدم اللغات في العالم، سجلت أفكارنا وأبداعنا منذ أبعد العصور، هي خندق الدفاع عن ثقافتنا وصلة الوصل بين أجيالنا، هي لغتنا شئنا أم أبينا، ولغة رسمية في المحافل الدولية، لذا يستوجب رعايتها وحمايتها وإقحامها في مجالات العلوم، وفي المناهج الدراسية بشكل فعال، بحيث لا يترفع الطالب إلا إذا اتقن لغته محادثة وكتابة، وأن تبادر الدول العربية إلى إصدار ميثاق على غرار الدول الأوروبية، واتخاذ إجراءات حاسمة لوقف زحف اللغات الأجنبية لأن الخوف على الأجيال القادمة والأجيال التي لم تولد بعد، وأختم بقول للدكتور طه حسين:” إنّ المثقفين العرب الذين لم يتقنوا لغتهم ليسوا ناقصي الثقافة فحسب، بل في رجولتهم نقص كبير ومهين”.

(الأنباء)