مؤسسة كهرباء لبنان والاستقلالية المستباحة

محمد بصبوص

بتاريخ 10 تموز 1964 صدر المرسوم رقم 16878 القاضي بإنشاء “مؤسسة كهرباء لبنان”. وقد نص في مادته الأولى على أن يُعهد بإنتاج ونقل وتوزيع الطاقة الكهربائية في جميع الأراضي اللبنانية إلى  مؤسسة كهرباء لبنان، على أن تكون مؤسسة عامة وطنية ذات طابع صناعي وتجاري. وقد شددت المادة الثانية من النظام العام للمؤسسات العامة، الصادر بالمرسوم رقم 4517/1972، على استقلالية هذه المؤسسة، باعتبار أن المؤسسات العامة التي تولي مرفقاً عاماً، على إطلاقها، تتمتع بالشخصية المعنوية وبالاستقلالين المالي والإداري. وقد يكون أبلغ ما عُرفت به هذه المؤسسات بأنها “مرفق عام تسند إدارته إلى هيئة عامة ذات شخصية معنوية مستقلة لها موظفوها المستقلون عن موظفي الدولة وتتخصص في القيام بنشاط معين”.

تأتي هذه المقدمة في سياق التأكيد على ما ابتغاه المشترع من خلال تركيزه على استقلالية المؤسسات العامة المالية والإدارية بهدف توفير أفضل إمكانية للقيام بمهامها وإتمامها على أكمل وأيسر وجه.

أما ما نشهده منذ سنوات عجاف في ظل حكم “الإصلاح” وتحكّمه بمصير المؤسسات الخاضعة لسلطانه، افتعل فيها مستبيحاً القوانين ومنتهكاً الأصول حتى أفقدها كامل استقلاليتها، فتحولت منصة لاستثماراته وساحة استباحة واستغلال، يفرض عليها توجيهاته وخيارات جيش مستشاريه. كل ذلك بذريعة “الوصاية”، التي باتت أشبه بالسلطة الإلهية المستمدة من تفسير خاطئ للدستور يجعل من الوزير سيداً حراً له أن يفعل في وزارته ما يشاء، حفاظاً على المصلحة العليا للدولة!!

وما مؤسسة كهرباء لبنان إلا المثل الصارخ والأفدح على استباحة وزراء تعاقبوا على المادة ٦٦ من الدستور التي تفرض بشكل قاطع ضبط وربط إدارة الوزير بالقوانين والأنظمة المرعية الإجراء.

أما السبب الأساسي في تسارع انهيار قطاع الكهرباء فيكمن في التدمير الممنهج لمؤسسة كهرباء لبنان واستغلال غياب إدارتها، واستباحة استقلاليتها، وتحويلها حلبة للاستثمار السياسي، وتوزيع المغانم والمنافع على بعض المحظيين، مكافأة لتغطيتهم أو في الحد الأدنى ثمناً لصمتهم.

كبحاً لمخيلة “راجحٍ” ابتدعوه لإلقاء اللائمة الفورية على خصومة سياسية عندما يواجَهون بحججٍ وحقائق يعجزون عن الرد عليها، وانطلاقاً من مبدأ إظهار الحقائق ولملمة ما ذُرَّ في العيون، لا بد من استعراض الملاحظات والتساؤلات المطروحة حول الأوضاع والممارسات الشاذة في مؤسسة كهرباء لبنان، تحت مرأى ومسمع وبصمة إدارتها المسلوبة الإرادة وحق التقرير:

أكد القانون 181 الصادر بتاريخ 5/10/2011 على وجوب تعيين مجلس إدارة جديد لمؤسسة كهرباء لبنان، خلال شهرين من تاريخ صدوره، إلا أنه لم يتم الالتزام بهذا الموجب وأهمل تطبيقه عمداً وعن قصد وسوء نية ولغايات في نفس يعقوب، فاستمر مجلس الإدارة المنتهية ولايته على قصوره وضعفه مقتصراً على رئيس وعضوين (بدلاً من 7)، وقد تخلل ذلك مكافأة رئيسه على طواعيته، فتم التمديد له حصراً دون غيره من الأعضاء، لمدة 3 سنوات انتهت أوائل العام 2017. ولكم أن تتصوروا مستوى ونوعية أداء مجلس إدارة على هذا المستوى من العجز وافتقاد القدرة الكافية والسلطة اللازمة للدفاع عن استقلالية المؤسسة في كافة مجالات اختصاصها، وللذود عن صلاحيات مجلس الإدارة نفسه في اتخاذ القرارات اللازمة والتي يراها الأنسب للنهوض بالمرفق الحيوي الذي تديره، ويتصل بحقوق كل مواطن ويطال كل بيت.

بناءً عليه، وبنتيجة تجربة السنوات، أقله العشر الماضية، يكمن التأكيد أن المدخل الأساسي والرئيسي لإصلاح المؤسسة وقطاع الكهرباء يستوجب، وفي أسرع وقت، تعيين مجلس إدارة جديد يكون متنوع الاختصاصات تتوفر لديه الكفاءة اللازمة لتأمين إدارة سليمة حرة ومستقلة لهذا القطاع، فتعيد الإمساك بزمام صلاحياتها وتضع حداً لأي شكل من أشكال التسلط والانتهاك والسيطرة.

تضم المؤسسة عشر مديريات يرأس غالبيتها مديرون غير أصيلين، وتخضع عملية التكليف وتوزيع المناصب إلى اعتبارات سياسية بحتة مرتبطة برغبة سلطة الوصاية ومشيئتها ورضى المستشارين.

تقدر نسبة الشواغر في المؤسسة بحوالي 50 في المئة من الوظائف، ويقدر متوسط عمر المستخدمين بما يناهز الخمسة وخمسين. في ظل هذا الواقع وبدلاً من إعادة هيكلة المؤسسة لتتماشى مع المتطلبات الحالية لإدارة القطاع واعتماد الأصول القانونية لملء الشواغر، تعمد سلطة الوصاية إلى  التوظيف السياسي، من خلال “معبر” شركة كهرباء قاديشا، ليجري نقل من تم توظيفهم إلى مؤسسة كهرباء لبنان.

أما الظاهرة الأخطر فتكمن في عمليات النقل والمناقلات الكيدية لموظفين ذنبهم الوحيد أنهم لم يعبروا عتبة بيت الطاعة السياسي لسلطة الوصاية. ويضاف إلى  هذه الظاهرة العملية الاستنسابية سياسياً في توزيع مئات لا بل آلاف الساعات الإضافية على المحظيين.

أما أعمال الصيانة والتشغيل واليد العاملة والإشراف والإدارة وغيرها من الخدمات الاستشارية فتتولاها شركات خاصة بموجب اتفاقيات تعقد بالتراضي بأسعار مرتفعة وغير عادلة تشمل نسبة 20 في المئة تمنح تحت تسمية الدفعة المسبقة، ولتبرير هذه الصفقات بالتراضي تتذرع المؤسسة بالأخطار المحدقة بالاستثمار، أو تجري استدراجات عروض صورية فاشلة، يتم اختيار العارضين من لائحة متعهدين لا يستجيبون لدعوات المؤسسة المتكررة. وتجري هندسة شروطها بإشراف مستشاري الوزير وموافقته المسبقة، وعلى قياس مجموعة من المتعهدين ووكلاء الشركات الصانعة، بحيث تضمن توزيع العقود بنتيجة معروفة مسبقاً. ويجري كل ذلك بعيداً من أية رقابة جدية وفاعلة.

ولأن إدارة المؤسسة اعتادت التخلي عن صلاحياتها  وتمويل الهدر الحاصل فيها من الموازنة العامة للدولة، فلم تعد تكتفي بالمطالبة بمساهمة لتغطية عجزها عن دفع المحروقات “السايبة” وإنما باتت تطالب بمساهمات لتغطية عجزها من كافة مصادره، لا بل إنها حاولت مؤخراً الحصول على رأي استشاري يسمح لها باعتبار موازنتها مصدقة حكماً، حتى عندما تكون مفتقدة للتوازن المرتبط بطلب مساهمة بقيمة أعلى من تلك التي يمكن أن تتوفر لها بموجب قانون الموازنة العامة.

أما إجراء المناقصات ودفاتر شروطها، فلن تتسع لها مقالة واحدة، والرأي العام بات على اطلاع واسع على فصول تلزيم الشركة التركية صاحبة “فاطمة غول” وأخواتها. ناهيك عن مشهد تلزيم “الطاقة المنتجة من الرياح”، فقد أعد دفتر الشروط من قبل “المركز اللبناني لحفظ الطاقة” وأقيمت مراسم المناقصة في مكاتب هذا المركز…

وآخر البدع والابتكارات هو إهمال وزير الوصاية المطالعات الاعتراضية حول التلزيمات والصفقات التي تجريها المؤسسة وإبقاء المعاملات المعروضة عليه دون البت بها إلى ما بعد المهلة القانونية المتاحة في القانون، بهدف توفير شروط التصديق الحكمي للمؤسسة، ووضعها موضع التنفيذ بالرغم من الشوائب والمخالفات التي تشوبها.

عودوا إلى رشدكم، وأوقفوا هذا العبث بمصير المؤسسة والقطاع، وتوقفوا عن التقويض الممنهج والمستمر لمؤسسة كهرباء لبنان، فقدرة المالية العامة والمواطن على الاحتمال نفدت. إن هذه الدعوة لم تعد خياراً أو ترفاً، وإنما باتت معبراً إلزامياً لوقف النزف القاتل الحاصل في قطاع الكهرباء واستنزاف المالية العامة، وآثاره المميتة والمدمرة على مستوى المواطن وكل الوطن.

*عضو مجلس قيادة الحزب التقدمي الإشتراكي