أي دور منتظر لتركيا في معركة إدلب؟

نجحت تركيا في تعطيل القرار الروسي – الإيراني – السوري، حسم معركة إدلب عسكرياً، وأجّلت موقتاً وقوع كارثة إنسانية، كان النظام السوري مدعوماً بالميليشيات الإيرانية وسلاح الجو الروسي يندفع نحوها، بعد أن حشد مقاتليه على مداخلها، حيث لم تتوان تركيا في المقابل عن تعزيز مواقع المراقبة الخاصة بها في إدلب وعلى الحدود السورية، كرد واضح على التصعيد السوري – الروسي – الإيراني، بعد فشل الدول الضامنة آستانة من الاتفاق على خارطة طريق تقدمت بها تركيا في قمة طهران تمنع انهيار الاتفاق حول إدلب، وفيما شكل اجتماع مجلس الامن الدولي حول إدلب حاضنة دولية للموقف التركي، رمت روسيا كرة إدلب المشتعلة في ملعب تركيا، وقال المبعوث الروسي الخاص إلى سوريا ألكسندر لافرينتيف، أن موسكو تأمل بالتوصل إلى حل سلمي للوضع في إدلب، التي تسيطر عليها المعارضة، مشيراً إلى أن تركيا منوط بها فصل المتطرفين عن المعارضة المعتدلة.

وأضاف قائلاً: “محافظة إدلب.. هي منطقة تقع ضمن مسؤولية تركيا، ومسؤوليتها فصل المعارضة المعتدلة عن المتطرفين”، في إشارة إلى النفوذ التركي على الطرفين.

في هذا السياق لا بد من التذكير بأسباب وظروف مشاركة تركيا في مسار استانة، والتي تأسست جزئياً على نقطتين أساسيتين: أولاً، رفض أميركي لدور تركي رئيسي في الملف السوري، حيث طالبت تركيا بعد انفجار الحرب الأهلية السورية بمنطقة نفوذ لها على الحدود مع سوريا. ثانياً، الاستخدام الأميركي لتركيا في الصراع مع روسيا في حادثة إسقاط الطائرة الروسية التي كلفت الأتراك غالياً، ما جعل فكرة القفز التركي إلى الضفة المقابلة، قابلة للتنفيذ لدى أردوغان، للتدليل على استقلالية قراره في حماية مصالحه الأمنية بعيداً عن السياسة الأميركية، كما أنه كان مدركاً أنه غير قادر على الوصول إلى نتائج ترضي أهدافه بمعزل عن التحالف مع أحد اللاعبين الرئيسيين أميركا أو روسيا على الساحة السورية.

لذلك فإن الاندفاعة التركية في الصدام مع روسيا إلى حد اسقاط طائرة عسكرية روسية، والاندفاعة الأخرى في دعم جبهة النصرة في الهجوم على ريف اللاذقية، وصولاً إلى مشارف القرداحة، تضمنت تجاوزاً تركياً واضحاً لخطوط حمر دولية، شجعت بنتيجته الولايات المتحدة الأميركية التدخل الروسي في سوريا لمنع انهيار النظام السوري في حينه.

عندما انتقلت تركيا في سياستها من مسار جنيف إلى مسار أستانة، ودخلت في لعبة إنشاء مناطق خفض التصعيد، التي انتهت ميدانيا ولم يبقَ منها إلا منطقة إدلب، بفعل نجاح التكتيك الروسي المستفيد من الشرط الدولي والموقف الأميركي الذي لا يريد إسقاط النظام السوري، لصالح منظمات عسكرية لا يسيطر عليها، استطاعت تركيا بمعزل عن الموقف الأميركي أن تدخل في مساومة شاملة مع روسيا، حول منطقة نفوذ في شمال سوريا، خارج الهيمنة الأميركية أو في موازاتها.

مقابل هذا الاتفاق (الروسي – التركي) الذي له طبيعة أبعد من تكتيكية، والذي أدى إلى استنهاض مسار (أستانة) بشكل موازٍ لـمسار (جنيف) السياسي، وأعاد رسم خريطة التحالفات المحلية على الساحة السورية، على حساب الخريطة الأولى التي لم تكن تمتلك فيها روسيا لا الدور ولا القوة الأساسية، دفعت تركيا ثمناً باهظاً من خلال تخليها عن مدينة حلب أولاً، كما دفعت ثمناً استراتيجياً ثانياً، تمثل في إنهاء الوجود المسلح للمعارضة المعتدلة، وإنهاء الصراع المسلح لصالح قوات النظام.

إذا كانت المعادلة الدولية لحل النزاع الدموي في سوريا ترتكز على قاعدة أساسية، تتمثل في إنهاء العمل العسكري أولاً، وإنهاء أي قوة مسلحة لا تنتمي إلى أي قطب من الأقطاب الفاعلة أو تعمل وفق أجندة غير أجندته ثانياً، وهذا ما ينطبق وسياسة أنقرة عامة، وفي ما يخص إدلب تحديداً، فإن وجود جبهة النصرة في الإطار الذي هي عليه الآن، وعجز تركيا عن احتوائها أو السيطرة عليها، أو إعادة بنائها وإعادة توظيفها، شكل ممراً كبيراً سمح لروسيا أن تخترق تلك المنطقة وأن تحاصر الدور التركي وتحجيمه إلى حدود لا يستطيع أردوغان تحمّله، ويتعارض مع مبدأ الأمن القومي التركي من المنظار العسكري والأمني.
إلا أن تركيا تمسك بورقتين رابحتين تتعلق الأولى في الصراع مع الأكراد، لا سيما المصنفين بـ “الإرهاب”، إضافة إلى ورقة اللاجئين التي تحمل وجهين لها وعليها، (عليها بالضغط المباشر الداخلي، ولها بالضغط غير المباشر على المجتمع الدولي وعلى المجتمع الأوروبي تحديداً).

عندما التقى زعماء الدول الضامنة “آستانة” في طهران، وحيث يدرك كل منهم مصالحه المتعارضة والمتناقضة، وجد الرئيس الروسي نفسه في مأزق بين المصالح الإسرائيلية والمصالح الإيرانية، وفي مأزق آخر بين استكمال سيطرته ونفوذه على سوريا وإنهاء الحالة العسكرية للمعارضة وإعادة انتشار قوات جيش النظام السوري على كافة مناطق خفض التصعيد ومنها إدلب، وبين المصالح التركية التي لها ثمنها وقدرتها على وضع حد في لحظة معينة لامتدادات النظام ووقف الانتصار الروسي.

أمام هذه التشابكات التي تحيط بالرئيس الروسي، كان من المستبعد أن يعلن الرئيسان بوتين وأردوغان في طهران عن فشلهما، فبرزت الخلافات بين الأطراف في المؤتمر الصحفي بعد القمة الثلاثية، إلا أن اعتماد عبارة “الالتزام بالعمل والتعاون الودي بين الأطراف لمعالجة المشكلات التي تواجههم في إدلب”، يحمل الإقرار بالاختلاف على جزء والاتفاق على جزء آخر، وهذا ما يهم الرئيس بوتين الاستمرار على ما هو متفق عليه.
أما من الناحية الميدانية، فترى مصادر دبلوماسية مطلعة على المفاوضات الجارية حول إدلب، أن ثمة اتفاقاً أولياً على صفقة محدودة بين بوتين وأردوغان، تسمح لهما باقتطاع جزء من غرب محافظة إدلب وجنوبها، وهو القسم الذي يرضي الروسي من موقع حماية قاعدته المركزية في حميميم، وفتح طريق اللاذقية ـ حلب الدولي، ما يضمن لبوتين نصراً جزئياً يستطيع تسويقه، ويخرج تركيا أيضاً بنصر آخر في الحفاظ على المنطقة الآمنة أو منطقة النفوذ التي تريدها.

وترى المصادر، “إن ميزان القوى في سوريا لا يمكن قراءته من خلال ميزان القوى الداخلي على الأراضي السورية، بقدر ما يتطلب تبيان ارتباطه بميزان القوى الإقليمي في الشرق الأوسط، حيث إن القوة المركزية الأساسية والضاربة هي لواشنطن وليست لموسكو أو طهران، وبالتالي فإن النظر إلى الملف السوري من هذا المنظار على قاعدة أن أي تفاهمات أمنية أو عسكرية غير معلنة بين موسكو وواشنطن لا تعني انتصاراً لموسكو في مظهرها، أو هزيمة لواشنطن، بقدر ما تعني تكريس القاعدة الأولى وهي منع الصدام الأميركي – الروسي عسكرياً، والقاعدة الثانية إنهاء العمل العسكري المسلح على الأراضي السورية.
في هذا السياق يجب رؤية الثقل في الموقف الأميركي الجديد الذي يتحدث عن أن بقاء القوات الأميركية في سوريا وربطها ببقاء القوات الإيرانية، وهذا يعني الربط الاستراتيجي الكامل على مساحة الشرق الأوسط، ولا يعني معالجة على مساحة الجغرافيا السورية فقط، ما يجعل نتائج معركة إدلب وتداعياتها إذا ما حصلت جزئية جداً.

*فوزي أبو ذياب- “الأنباء”