كيف ترد إيران على العقوبات؟

في 28 آب/أغسطس، وللمرة الثانية في تاريخ الجمهورية الإسلامية، وقف الرئيس الإيراني حسن روحاني أمام “مجلس الشورى الإسلامي” وأجاب على الأسئلة التي طُرحت عليه بشأن مشاكل إيران الاقتصادية. وقد سُئل عن البطالة والنمو الاقتصادي البطيء وهبوط سعر الريال الإيراني والتهريب عبر الحدود وتعذّر وصول المصارف الإيرانية إلى الخدمات المالية العالمية حتى الآن. وقد صوّت “المجلس” رسمياً على رفض توضيحاته حول معظم هذه القضايا، إذ لم يتم قبول إلا إجاباته المتعلقة بمسألة الوصول إلى [حسابات] المصارف.

وجاءت هذه الجلسة في أعقاب الاجتماع الذي صوّت فيه البرلمان على إقالة وزير المالية مسعود كرباسيان يوم 26 آب/أغسطس. وفي الواقع، يتعرض الرئيس روحاني لضغوط لتغيير طاقمه الاقتصادي بأكمله، إذ سبق أن أقال محافظ “البنك المركزي” في حين قام “مجلس الشورى” بطرد وزير العمل وينظر حالياً في اقتراح ضد وزير الصناعة والتعدين والتجارة.

و قد يجادل المسؤولون الأمريكيون بأن معظم المشاكل الاقتصادية التي تعاني منها إيران نابعة عن تجدد العقوبات الأمريكية، وهم محقّون إلى حد كبير – لكن هذه ليست الشكوى المركزية التي تتردد أصداؤها في طهران. ففي كلمة ألقاها خامنئي في 16 آب/أغسطس، تحدّث المرشد الأعلى علي خامنئي باستفاضة عن الموضوع، وخلص إلى أنه “على الرغم من أن العقوبات قد لعبت دوراً ما، إلّا أنه يمكن إعادة المصدر الرئيسي للمشاكل الاقتصادية الراهنة إلى سوء الإدارة والإجراءات المتخذة على المستوى الداخلي”. وبالفعل، في الوقت الذي ينصبّ فيه كامل تركيز الدول الغربية على المشاكل التي تواجهها المصارف الإيرانية في الوصول إلى النظام المالي العالمي، كانت هذه هي المسألة الوحيدة التي تمكّن روحاني من إرضاء “مجلس الشورى” بشأنها. وإذا كان المسؤولون الأمريكيون يهدفون إلى زيادة الضغط الشعبي على النظام، يتعين عليهم معالجة هذه الرواية المحلية التي تتحول فيها الآراء سريعاً إلى أمرٍ واقع.

وضع اللوم على الفساد

إنّ إحدى الحجج الرئيسية التي وردت في خطاب خامنئي هي صحيحة بالفعل، حيث قال إن “الخبراء الاقتصاديين والعديد من المسؤولين يُجمعون على أن المشاكل المعيشية اليوم ليست ناجمة عن العقوبات الأجنبية، بل تعود إلى مشاكلنا الداخلية”. ويكاد المعلّقون المحليون يتوافقون بالإجماع حول هذه النقطة رغم أنها تقلل من التأثير الذي أحدثته العقوبات.

ويُقدّم التلفزيون الحكومي تغطية واسعة لفضائح الفساد الكثيرة في البلاد، ويبث المحاكمات على الهواء للمرة الأولى منذ عقود. على سبيل المثال، تتم مقاضاة ثلاثة مستوردين للهواتف الخلوية بتهمة شراء سماعات للهواتف بسعر صرف رسمي مؤات وبيعها بأسعار مضخّمة. وفي إحدى القضايا تم استخدام اسم شخص متوفّ لاستيراد آلاف الهواتف.

وبالفعل، ينسب الكثير من الإيرانيين الانهيار الأخير للعملة إلى التلاعب الفاسد بالثغرات بين أسعار السوق الرسمية والسوق الحرة. وقد عبّر خامنئي عن هذه الشكوى الشائعة في كلمته حين قال: “تم استخدام العملات الأجنبية إما من قبل مجموعة صغيرة أو تم بيعها للمهرّبين الذين أخذوها إلى الخارج أو باعوها إلى أشخاص قاموا بتكديسها، لبيعها لاحقاً بقيمة مضاعفة أو بثلاثة أضعاف ليكتسبوا ثروةً بين ليلة وضحاها”. وهذه هي تحديداً التهمة التي اعتُقل على أساسها نائب محافظ “البنك المركزي” ومسؤول العملات الأجنبية أحمد عراقجي.

وحين قام رئيس السلطة القضائية صادق لاريجاني في وقت سابق من هذا الشهر بتوجيه كتابٍ إلى المرشد الأعلى يطلب فيه [تشكيل] محاكم جديدة لمكافحة الفساد، لم يكتفِ خامنئي بالموافقة على الاقتراح فحسب، بل أوعز إلى المحاكم بفرض أقصى العقوبات على كل من “يعرقل الاقتصاد ويفسده”. وفي 12 آب/أغسطس، أعلنت السلطة القضائية عن اعتقال 67 شخصاً بتهمة الفساد ووُضع حظْر على 100 موظف حكومي على مغادرة إيران.

ولقيت حملة مكافحة الفساد أصداءً إيجابيةً لدى الرأي العام – وهذا ليس بالأمر المستغرب نظراً إلى أن إيران احتلت المرتبة 130 من أصل 180 دولة على “مؤشر مدركات الفساد” الصادر عن منظمة “الشفافية الدولية” عام 2017. كما يستخدم العديد من الإيرانيين حملة وسائل الإعلام “أين ولدك؟” لكي يشْكوا من أن أبناء المسؤولين الحكوميين يعيشون حياة ترف بعيدة كل البعد عن الحياة التي يعيشها عامة الشعب.

وقد تفاقمت هذه المشاكل نتيجة السياسات الرديئة فقط. وقد نتج عجز “البنك المركزي” إلى حد كبير عن الحفاظ على استقرار النظام المصرفي أو دعم الريال المنهار، عن سلسلة من القرارات والسياسات الغبية بشكل مذهل، ومنها المسعى القصير الأجل لملاحقة تجار سوق الصرف الحرة الذين تنتشر ظاهرتهم على نطاق واسع، في حين لا تزال الإصلاحات الهيكلية الجوهرية في المصارف شبه متوقفة ووتيرتها بطيئة للغاية.

وفي المقابل، ليس لدى السياسيين الإيرانيين والبرامج التلفزيونية الإيرانية الكثير ليقولوه هذه الأيام عن العقوبات الأمريكية. ففي 27 آب/أغسطس، بدأت “محكمة العدل الدولية” جلسة الاستماع إلى الشكوى المقدمة من طهران ضد الولايات المتحدة بتهمة انتهاك “معاهدة الصداقة والعلاقات الاقتصادية والحقوق القنصلية” المبرمة بين الطرفين عام 1955 (نعم، ما زالت المعاهدة سارية؛ كلا، إنها لا تحظر العقوبات). حتى أنّ التظاهرة التي نظمها رجال الدين في مدينة قم في 16 آب/أغسطس ألقت اللوم على الولايات المتحدة حول المشاكل الاقتصادية. إلا أنّ هذا النمط من الشكوى أصبح حالياً الاستثناء وليس القاعدة – وحتى في هذه الحالة، ينصب التركيز على لوم الرئيس الإيراني على ثقته بالولايات المتحدة. أما روحاني فغالباً ما يذكّر بالضغوط التي تمارسها الولايات المتحدة عندما يدافع عن سياساته الاقتصادية، ولكن هذا العذر لا يلقى ردّاً إيجابياً كما تبيّن من التصويت الذي جرى ضده داخل “مجلس الشورى” في الأسبوع الماضي.

قصة الريال

في غضون ذلك، استقر هذا الشهر سعر صرف الريال الإيراني في السوق الحرة ولكنّ الضرر كان قد وقع بالفعل – فقد انخفضت قيمة العملة من 38 ألف ريال للدولار الواحد قبل عام إلى 107 آلاف ريال. ولا يزال النظام الإيراني يعتمد سعر صرف رسمي خاص يبلغ 42 ألف ريال للدولار الواحد، ولكن هذا لا يتوفر إلا لأولئك الذين هم على اتصال جيد سياسياً. كما أنه يقدّم سعر صرف وسطي لمصدّري السلع غير النفطية. ويكاد جميع الإيرانيين يرون في انهيار الريال مقياساً لسلامة الوضع الاقتصادي ويلومون حكومة روحاني على هذه التطورات.

ومن المفارقة أن خفض قيمة العملة يعتبر دواءً اقتصادياً ناجعاً للمشاكل التي يرجّح أن تنشأ عن تراجع عائدات التصدير. فالوصفة الشائعة لبلدٍ في هذه الحالة تتمثل في خفض قيمة العملة، الأمر الذي يجعل الواردات أكثر تكلفة والصادرات أكثر إغراءً. ومن الواضح أن هذا هو التأثير الذي يحدث في إيران، حيث يقلل المستهلكون من رحلاتهم إلى الخارج ومن مشترياتهم من السلع الأجنبية.

فضلاً عن ذلك، يعني انخفاض قيمة العملة حصول الحكومة على كمية إضافية من الريال مقابل كل دولار من عائدات النفط. وسترتفع عائدات الحكومة من الصادرات النفطية، مُقاسةً بالريال، عام 2018/2019 مقارنةً بالميزانية؛ وحتى أن [هذه] العائدات سترتفع أكثر إذا سمحت طهران لسعر الصرف الرسمي الخاص بها بمناهزة سعر الصرف في السوق الحرة. ومع ذلك، فقد تمسكت الحكومة حتى الآن بسعر الصرف الخاص وتجنبت أي زيادة في الأجور.

بيد، يتسبب الجانب السلبي لانخفاض قيمة العملة بارتفاع الأسعار. فوفقاً لـ “البنك المركزي”، وصل معدل التضخم الشهري بين 22 تموز/يوليو و21 آب/أغسطس إلى 5.2 في المائة، وإذا ما استمرت هذه الوتيرة لمدة عام، سيصبح المعدل السنوي 84 في المائة. والجدير بالذكر أن خفض معدل التضخم إلى رقم أحادي كان الإنجاز الأكثر فخراً لروحاني خلال ولايته الرئاسية الأولى، ويمكنه نظرياً تكرار ذلك عبر اتّباع سياسة نقدية صارمة. ومع ذلك، فإن النظام المصرفي المتداعي ليس في وضع يخوّله تطبيق هذه الخطوة حتى لو كان روحاني مستعداً للقيام بمثل هذه المقامرة السياسية الكبيرة.

وباختصار، كان لانهيار الريال أثرٌ إيجابي على استقرار الاقتصاد الكلي: فالموازنة قد تسجّل فائضاً، والميزان التجاري سيتحسّن. غير أن ذلك ينطوي على مخاطر على الاستقرار السياسي: فالمدخولات الفعلية للعاملين بأجر آخذة في التراجع في الوقت الذي تنطلق فيه الاحتجاجات الشعبية المتفرقة.

الساعة تدقّ

يبدو أن كبار المسؤولين الإيرانيين يشعرون بالارتياح إزاء العقوبات الأمريكية المتجددة على الرغم من الفشل الظاهري في ردهم الأولي. فحين انسحبت واشنطن من الاتفاق النووي في وقت سابق من هذا العام، بدأت طهران تردد شعاراً يطالب الأطراف الأخرى (أوروبا، وروسيا، والصين) بتوفير المنافع كتعويض لها. ويبدو ذلك أقل احتمالاً يوماً بعد يوم مع إعلان شركات كبرى في تلك الدول، حتى تلك المملوكة للحكومة، عن انسحابها من إيران. على سبيل المثال، بدا النظام واثقاً من أن “مؤسسة البترول الوطنية الصينية” ستتولى إنجاز المرحلة الحادية عشرة من مشروع غاز “حقل فارس الجنوبي” بعد انسحاب شركة “توتال” منه، ولكن صحيفة “وول ستريت جورنال” أفادت في 21 آب/أغسطس أن بكين لم تبدِ اهتماماً يُذكر بالموضوع. وفي 8 آب/أغسطس، كشفت الصحيفة نفسها أن شركة النفط الصينية “سينوبك” “تواجه اليوم صعوبات في إيجاد القنوات المصرفية المناسبة” لاستثمارها المقرر في حقل “ياداوران” النفطي بكلفة تبلغ 3 مليارات دولار.

أما فيما يخص الرد الإيراني المقبل على العقوبات المتجددة، فطريقة تفكير النظام في هذا الشأن غير واضحة. ومن المقاربات التي يمكن تبنّيها انتظار انتهاء ولاية ترامب على أمل عدم انتخابه مجدداً، ولكن هناك القليل من الدلائل على أن إيران تتبنى بحذر هذه الاستراتيجية.

ومهما يكن من أمر، فقد أدى الانخفاض الحاد في قيمة الريال إلى إقناع إدارة ترامب بصحّة التنبؤ الذي أدلى به الرئيس الأمريكي في 8 أيار/مايو، ومفاده أنه “من الطبيعي أن يقول القادة الإيرانيون في المستقبل بأنهم يرفضون التفاوض على اتفاق جديد… لكنهم في الواقع سيرغبون في إبرام اتفاق جديد ودائم، تستفيد منه إيران باجمعها وكذلك الشعب الإيراني”. ولربما يؤدي الضغط الأمريكي إلى إيصال إيران إلى هذه المرحلة، ولكن حتى الآن على الأقل، تصر طهران على أن مشاكلها الاقتصادية ناجمة عن أسباب داخلية. وبالتالي فالتحدي الذي تواجهه واشنطن هو كيفية زيادة الضغوط بسرعة وعلى نطاق واسع بما يكفي لإقرار خامنئي بأن هذه المشاكل متجذرة في سياسته الخارجية القائمة على المجابهة. والسيناريو الأكثر احتمالاً هو أن يحاول كل طرف دفع الطرف الآخر إلى التنازل أولاً، حيث تعمد واشنطن إلى زيادة الضغط من جهة، وتنتظر طهران انتهاء ولاية ترامب من جهة أخرى.

  • معهد واشنطن