ترامب والتربح من الصفقات

د. قصي الحسين

وحدها الصفقات تضع السياسة في سوق النخاسة. غير أن الرئيس دونالد ترامب الذي يجاهر منذ وصوله إلى البيت الأبيض بعقد الصفقات واحدة تلو أخرى، إنما يحسن في الوقت عينه، أكثر من السياسيين العالميين الآخرين تطهير هذه السوق لتطهير الصفقة. إذ جعل الصفقة السياسية حاجة شعبية لأميركا، تصب في خزانتها فوراً بدون حياء ولا التواء، ولو على حساب تاريخ أميركا وتاريخ شعبها في إرساء المنابر على أرضها وإرسال الرسائل في أثيرها، عن الحرية والديمقراطية وحقوق الشعوب. فبموجب ما تنص عليه قوانين وشرائع الأمم المتحدة ومجلس الأمن الدولي وسائر المنظمات الدولية الّتي ترعاها وتكفل حريتها وتتعهد بتوفير أجواء واجراءات تطبيقها، على الصعد كافة، كان رؤساء أميركا السابقون أكثر راديكالية، يتحدثون أثناء تسويق قراراتهم غير الشعبية، عن تاريخ أميركا في العظمة والمجد. وعن تاريخ الشعب الأميركي في الحفاظ على الأصالة الأميركية، في الرعاية والدعم والتأييد والذهاب إلى الحرب أو إلى السلم.

أمّا الرئيس ترامب، فهو يتحدث فقط عن المال الذي يعد به الشعب الأميركي والخزانة الأميركية يطهر به قراره. وهو لا يجد حراجة، في السير في أية صفقة سياسيّة أو عسكرية، إذا كان ذلك مقبولاً في حسابات المصالح ذات التربح المالي. أو إذا ما واجهه السياسيون الأميركيون من الجمهوريين أو الديمقراطيين، أو من قادة الرأي والفكر الّذين يحبرون الورق والصحف، وينفخون في أبواق وسائل الإعلام.

يرى الرئيس ترامب أن الشعب الأميركي يسأله عن المال وعن البحبوحة وعن العيش في رخاء، ولا يسألونه عن بيع الأفكار ولا عن الارتشاء السياسي، ولا عن الإخلال بالآراء والمواقف. فكل ذلك يمكن تطهيره في السوق الشعبية، بغاية جني المال بأية سبيل، لأن أميركا بحسب رأيه خلافاً لجمهورها العظيم من السياسيين والمفكرين المخضرمين، إنما تريد تنامي الخزينة وتنامي المصارف وتنامي العقارات وتنامي الأسواق وتنامي الطبقات والشرائح الاجتماعيّة، أكثر مما تريد نمو الجمعيات الإنسانية والمنظمات الرسمية وغير الرسمية، أو نمو المنابر الإنسانية أو السياسية أو منابر الأخوة والحلفاء والأصدقاء أو منابر تدعيم الحرية والديمقراطية.

وصفه ديفيد اغناتيوس (خدمة واشنطن بوست) فقال: “الرئيس دونالد ترامب الذي نشاهده أكثر اهتياجاً من المتمول الشاب الذي قفز ليعتلي قمة العالم. النسخة الحالية من ترامب ترى نفسها مديراً تنفيذياً، ليس لشركة تجارية منتعشة، بل لشركة باتت في الحضيض بسبب أفعال سابقيه، فبدلاً من احتضان الشركاء الأبديين في أوروبا، عبر ترامب عن استيائه منهم ومن نجاحهم”.

برأي ترامب، خسرت أميركا في ظل الرؤساء السابقين، وها هي تجد فرصتها معه. وها هو الشعب الأميركي يجد فرصته معه. فبعد تسلمه البيت الأبيض، أراد أن يطهر السياسة الأميركية بالهجوم على الرئيس السابق باراك أوباما ويجعلها أكثر بياضاً. فانقلب على الاتفاق النووي الإيراني، ضارباً عرض الحائط بمصداقية السياسة الأميركية. وانقلب على كل الدول الأوروبية وغير الأوروبية الّتي لا تؤيده في انقلابه هذا، بثمن من الصهيونية العالمية.

انقلب أيضاً على اتفاق أوسلو. بثمن من الصهيونية العالمية. وانقلب أيضاً لصالحهم في صفقة القدس، بثمن من الصهيونية العالمية، وانقلب في هلسنكي على الجولان وسلمه بثمن من خزائن اليهود للصهيونية العالمية. وأيد إسرائيل على غزة بثمن من الصهيونية العالمية. وعقد صفقة مع كوريا الشمالية على حساب كوريا الجنوبية، وعقد صفقة مع الصين الشعبية على حساب الإمبريالية الأميركية نفسها. وعقد مؤخراً صفقة مع الرئيس الروسي فلاديمير بوتين على حساب الاتحاد الأوروبي. وسلم لروسيا بسوريا على حساب المعارضة السورية. وسلم لتركيا بالأكراد وشرق الفرات، على حساب الأكراد أنفسهم.

ولا غرو فهو الذي ألزم الخليج بدفع ضريبة حمايته له. هو الذي ابتـزهم ولو في صفقة غير مأمونة، مطبقاً عليه سياسة التربح من الصفقات.

* أستاذ في الجامعة اللبنانية

اقرأ أيضاً بقلم د. قصي الحسين

كمال جنبلاط البيئي وإلتقاط البرهة!

مجتمع البستنة

الدكتور اسكندر بشير التجربة والرؤيا الإدارية

 ساق الحرب

جائزة إدلب

جميل ملاعب والقدس: تأبيد الرؤيويات البصرية

جسر السلام: ثوابت كمال جنبلاط الفلسطينية التاريخيّة

القتل السري عن كمال جنبلاط والقتل السياسي

حين السياسة بمفعول رجعي

عن النظام يأكل أبناءه الفوعة وكفريا نموذجاً

مصطفى فروخ وطريقه إلى الفن

 الرئيس القوي

 د. حسين كنعان وأركيولوجيا القيافة والثقافة والسياسة

 ضياء تلك الأيام

 عن كمال جنبلاط والفرح بالعمل

 تتجير السلطة

تيمور جنبلاط بصحبة والده في السعودية زيارة تاريخية إحيائية

 كوفية تيمور ومليونية القدس وجه آخر للاضطهاد والإحتلال

تجديد “نسب الخيل لابن الكلبي” ونسخ لمخطوطاته التراثية الثلاث

عاميات عبد الحميد بعلبكي في “حديث الشيخوخة”