عن النظام يأكل أبناءه الفوعة وكفريا نموذجاً

د. قصي الحسين

يحزنني حقاً أن أرى إلى مشهد بدء الإخلاء الكامل لبلدتي الفوعة وكفريا بعد إتمام اتفاق التهجير. سيذكر التاريخ أنه فجر الخميس الواقع فيه 19/7/2018، تم إعدام بلدتين، وخرج الناس والحبال في أعناقهم إلى الباصات، يشرقون بدموعهم، والأمراس مشدودة إلى اصطبلات أستانة والخيول التركية والروسية تصهل فيها على وقع صليل السيوف وقرقعة السلاح وقعقعة النظام والأعراب.

أكثر من ثمانية آلاف من الناس في الفوعة وكفريا يخرجون بثياب النوم قبل الفجر إلى العراء، يحملون حوائجهم اليدوية ويقطعون أنفاسهم ويبترون أعمارهم وأيديهم، وينبتون عن أبواب العمر ومهاجع السنين والحنين، ومناجل الكدح وخوابي التعب وخزائن الذكريات والحكايا والشوارع والزوايا. يحنون رقابهم ويقبلون أيادي السيافين ، يلحسون دماءهم عن النصال ويستعطفون السراجين، يملسون أحذيتهم وحوافر خيلهم ويمسدون شعر أذيالهم ويتضرعون لأسيادهم ويضرعون الله، على ميتة مثل “ميتة ابن خارجة”.

ويقول مدير المرصد السوري لحقوق الإنسان رامي عبد الرحمن لوكالة الصحافة الفرنسية: “إن بلدتي الفوعة وكفريا باتتا خاليتين من السكان تماماً بعد انتهاء عملية الاجلاء فجراً بخروج 6900 شخص من مدنيين ومسلحين موالين للنظام”. بموجب اتفاق أبرمته روسيا حليفة دمشق، وتركيا الداعمة للمعارضة، الثلاثاء، وبدأت العمليّة بعد منتصف ليل الأربعاء/ الخميس، وخرج سكان البلدتين اللتين حاصرتهما هيئة تحرير الشام وفصائل أخرى في 2015، في دفعة واحدة على متن أكثر من 120 حافلة، وشاهد مراسل الوكالة في قرية الصواغية المجاورة، خروج آخر الحافلات من البلدتين. وقد وصلت هذه الحافلات تباعاً إلى معبر العيس الواقع في جنوب محافظة حلب والفاصل بين مناطق سيطرة النظام والفصائل.

وعند معبر العيس من وجهة سيطرة الفصائل، شاهد المراسل خروج أولى الحافلات، باتجاه مناطق سيطرة القوات الحكومية في ريف حلب الجنوبي. وواكب العمليّة تشديد أمني، وأفاد المراسل عن مرافقة العشرات من مقاتلي هيئة تحرير الشام القافلة إلى حين وصولها إلى معبر العيس، جنوب محافظة حلب.

1- ثمن الفوعة وكفريا، حدده الرئيسان: الروسي فلاديمير بوتين، والتركي رجب طيب أردوغان في مكالمة هاتفية يوم السبت قبل اسبوع من الترحيل. قضى الرئيسان بإقامة 12 نقطة مراقبة عسكرية داخل إدلب، بموجب اتفاق مناطق خفض التصعيد، الذي توصلت إليه مع كل من روسيا وإيران خلال مباحثات استانة.

2- ومن ثمن الفوعة وكفريا، انسحاب مقاتلي وحدات الحماية الشعبية الكردية السورية من نقاط التفتيش حول مدينة منبج، بالكامل، على أن تسير الدوريات الأميركية – التركية، قواتها، بشكل مستقل بين مناطق درع الفرات ومنبج في إطار اتفاق خريطة الطريق في منبج الموقع بين انقرة وواشنطن. وسيرت القوات التركية والأميركية بشكل مستقل 16 دورية عسكرية في محاور التماس بين مناطق درع الفرات ومنبج، بموجب اتفاق بين وزير الخارجية الأميركي والتركي في الرابع من حزيران 2018 في واشنطن، وقضى بإخراج مقاتلي الوحدات الكردية من منبج والإشراف المشترك على تأسيس الأمن فيها لحين تشكيل إدارة محلية. وكان من حصيلة ذلك تأمين منطقة “درع الفرات” بريف حلب الشمالي بـ 450 شرطياً جديداً من الجيش السوري الحر، الّذين خضعوا لتدريبات من قبل تركيا في المنطقة.

3- ومن ثمن الفوعة وكفريا أن يستعيد النظام خط الفصل مع الجولان بعد فرض سيطرة قوات النظام السوري على معظم مناطق الجنوب: درعا مساحتها 70 % من مجمل مساحة القنيطرة. وتم التوصل لاتفاق ينص على عودة الجيش السوري إلى النقاط الّتي كان فيها قبل 2011، متمثلاً باللواء 90 واللواء 61. وترافق الشرطة الروسية قوات النظام في المنطقة العازلة. ووضعت المنطقة تحت الوصاية الروسية بالاتفاق مع الجانبين الأميركي والإسرائيلي.

4- ومن ثمن ترحيل الفوعة وكفريا، أن تباشر قادة وحدة فصل القوات التابعة للأمم المتحدة “أندوف” سلسلة اجتماعات بين ضباط اسرائيليين وسوريين، كل على حدة، لترتيب عودة قوات النظام إلى الجولان، وفق اتفاقية فض الاشتباك الموقعة سنة 1974. وعلى اثر التنسيق الأمني الإسرائيلي الروسي، زاد الاعتماد على قوات أندوف في مهمات توفيقية على الأرض بين الإسرائيليين والسوريين.

5- دفعت الفوعة وكفريا في محافظة ادلب الثمن تهجيراً قسرياً وتغييراً ديموغرافياً. ومثلها دفعت بلدتي الزبداني ومضايا، قرب دمشق من حصار النظام. وكذلك دفع حي الوعر، ثمن التسوية في حمص العام 2017. وكذلك فعلت داريا وحرستا في آب 2016 وخضعت لشرط التسوية مع النظام تهجيراً وتغييراً. ناهيك عن سكان شرق حلب، الّذين أجلوا بموجب اتفاق رعته إيران وروسيا وتركيا. وخرج من الغوطة قرابة 46 ألف شخص إلى ادلب وخضعت أحياء برزة والقابون ونشرين لشروط اتفاق “مصالحة” في أيار 2017، وعاد النظام إلى الأحياء الثلاثة كذلك دفعت بلدة “الضمير” الثمن في إبريل وبلدة “يلدا” في مايو وبلدات “بيبلا” و”بيت سحم” و”مخيم اليرموك” في مايو وفي 15 يوليو/ تموز، وتم اجلاء مدينة درعا الجنوبية إلى شمال سوريا.

يحزنني حقاً أن أرى مدن وبلدات سورية، تعرض في قوافل التهجير القسري والتغيير الديموغرافي، تضرب في الإذلال حتّى النخاع، وتغوص في المستنقع حتّى آباطها، وتتردد على مسامعها أسماء وكلمات: روسية، أميركية، تركية، إيرانية، إسرائيلية وتعقد في هلسنكي قمة فوق جماجم أبنائها، تبيع وتشتري كالعادة أرضها، أرضنا بحقول من نفط وبعروض من سلاح.

يحزنني حقاً أن أرى في سورية بلاداً تهجر سكانها، تحت أعين ساهمة لنظام يأكل أبناءه كما كرونوس حتّى يبقى ويعيش.

* أستاذ في الجامعة اللبنانية

اقرأ أيضاً بقلم د. قصي الحسين

كمال جنبلاط البيئي وإلتقاط البرهة!

مجتمع البستنة

الدكتور اسكندر بشير التجربة والرؤيا الإدارية

 ساق الحرب

جائزة إدلب

جميل ملاعب والقدس: تأبيد الرؤيويات البصرية

جسر السلام: ثوابت كمال جنبلاط الفلسطينية التاريخيّة

القتل السري عن كمال جنبلاط والقتل السياسي

حين السياسة بمفعول رجعي

ترامب والتربح من الصفقات

مصطفى فروخ وطريقه إلى الفن

 الرئيس القوي

 د. حسين كنعان وأركيولوجيا القيافة والثقافة والسياسة

 ضياء تلك الأيام

 عن كمال جنبلاط والفرح بالعمل

 تتجير السلطة

تيمور جنبلاط بصحبة والده في السعودية زيارة تاريخية إحيائية

 كوفية تيمور ومليونية القدس وجه آخر للاضطهاد والإحتلال

تجديد “نسب الخيل لابن الكلبي” ونسخ لمخطوطاته التراثية الثلاث

عاميات عبد الحميد بعلبكي في “حديث الشيخوخة”