الجامعتان اليسوعية والأميركية تنسحبان: التعليم العالي في خطر

محمود الاحمدية

الــعلـــــم يُحْيـــــي قــلــوب الـمـيـتــيــــن كـمــا تحيـــا الــبـــلاد إذا ما مسَّهـــا الــمَــطَـــــــرُ

والعلم يجلو العمى عن قلب صاحبه كـمـا يُـجَــــــلّــي ســـواد الـظــلـمــة الـقـمـــــــر
(أبن عبد ربّه)

منذ سنة تقريباً التقيت صدفة في رحاب الجامعة اليسوعية، بصديقي وزميلي في كلية الهندسة في هذه الجامعة التاريخية العريقة حيث أَفْنى جزءاً من عمره في التعليم العالي وفي هذه الجامعة بالذات، كان على غير عادته، ابتسامته غابت عن وجهه وكان صمته كبيراً وآثار الحزن العميق تسرق جزءاً من شخصيته المحبّبة للنفس…
سألته: ما الذي يؤرقك ويترك فيك هذا الوجه المظلم الباكي وكأنك تحمل هموم الدنيا بأكملها… أجاب بهدوء كعادته وبرزانة: محمود للمرة الأولى أحسن بالخطر يهدّد مستوانا الجامعي، وعندما يصل عدد الجامعات في لبنان إلى حوالي الخمسين جامعة وبعد أن بدأت تتسرب الشهادات التي اشتراها أصحابها ولن أغوص في التفاصيل، هذه الجامعات وأقول بعضها أصبح الطابع التجاري يطغي عليها… وتابع: الله يستر ماذا ينتظرنا في المستقبل القريب أقول القريب وليس البعيد وهذا آخر خندق للوطن يتميز به وعلى مدى أجيال وأجيال عن كل شرقنا الأوسط والعربي… وصمت غير متحمّسٍ أن يتحدث ولو بكلمة واحدة…

وخلال هذه الفترة وبعد مضي حوالي السنة على حديثنا… كانت المفاجأة القنبلة التي أفاق اللبنانيون على صداها: الجامعة اليسوعية والجامعة الأميركية تنسحبان من رابطة الجامعات اللبنانية، وتدقان ناقوس الخطر على مصير التعليم العالي في لبنان وذلك بعد تناهي إلى أسماع المسؤولين أن الاتحاد الأوروبي هدّد لبنان بعدم الاعتراف بشهادة “الجامعة اللبنانية” ما لم تعمل على إصلاح مناهجها خلال ثلاث سنوات، وأصدرت الجامعة اللبنانية بياناً نفت فيه هذا الخبر متهمة بعض الجامعات الخاصة بالاستفادة من معلومات مغلوطة من أجل ضرب الجامعة الوطنية…

وعلى ضوء أخبار تزوير شهادات للبعض في قطاع نحترمه ولكن استعمال الشهادة المزورة بكل ما يحمله من خطر حقيقي على سمعة التعليم العالي في لبنان فهو بداية انهيار أهم قطاع تباهى به الوطن في العالم أجمع… وفي آخر إحصائية قامت بها المؤسسة البريطانية “كواكوا ريلي سيموندس” المختصة بالتعليم وكان التقرير الذي نشر قائمة بأفضل ألف جامعة في العالم لعام 2019 حيث احتلت “الجامعة الأميركية في بيروت” المرتبة الأولى في العالم العربي والمرتبة 237 عالمياً واحتلت الجامعة اليسوعية المرتبة 12 في العالم العربي والمرتبة 500 عالمياً ولم يرد اسم الجامعة اللبنانية عالمياً ولكنها احتلت مركزاً متميزاً المرتبة 25 عربياً…

وسُجِّل حضور لعدد من الجامعات الخاصة في لبنان بحيث كانت ضمن الخمسين الأولى عربياً وبين الـ 501 والألف عالمياً… ولكن انفلات المعايير هو ما أدى إلى انسحاب الجامعتين الأعرق في تاريخ الوطن…

من غير المسموح المزح في هذا الملف الذي يعتبر بكل المقاييس جزءاً من قيمة وقامة هذا الوطن، واللعب فيه يُعتبر تهديمٌ لآخر خندق دفاع وعزة وإبداع في لبنان: التعليم العالي…

وعندما بدأت الجامعات تفرّخ كالفطر في لبنان حتى وصلت إلى حوالي الخمسين جامعة وللأسف الشديد كان الترخيص يتبع منهجية ستة وستة مكرر بالبُعدين الطائفي والمذهبي لخلق توازن مرعب متعفّن وخاصة في هذا المجال الأسمى… وفي إحصائية قام بها الدكتور عصام خليفة: نسبة عدد طلاب الجامعة اللبنانية لا تزيد حالياً عن 35% أي نحو 73 ألف طالب بعدما كانت هذه النسبة في الماضي 60% وبالتالي كان يفترض أن يكون هذا العدد في هذه الأيام حوالي 150 ألفاً…!! ومن هذه الإحصائية يتراءى لنا البُعد التجاري المدمّر الذي سرق هؤلاء التلامذة من عقر دار الجامعة اللبنانية الوطنية وانهمرت الملايين في جيوب تجار الجامعات في سلسلة لا قرار لها…

واتهم خليفة المسؤولين بالهروب من الأزمة وعدم إيجاد حل لها عبر منح تراخيص عشوائية.

والحقيقة وفي المبدأ أنا لست ضد وجود جامعات خاصة شرط أن يكون ترخيصها مبنياً على معايير عالمية محدّدة… أحببت ومن خلال مقالتي هذه تسليط الضوء على ملف مصيري، هو الأسمى والأكثر إبداعاً في الوطن… وأدعو كمواطن يعشق وطنه المسؤولين بأخذ الأخبار الآتية من أوروبا وجامعاتها والتي تتحدث عن إمكانية عدم الاعتراف بشهادات الجامعة اللبنانية… على محمل الجدّ… ونحن نلعب بالنار… وكفى الجيوب تنتفخ أكثر وأكثر وأكثر… لعلّ الشبع يأخذ طريقه إلى بطونهم العامرة…

لبنان “جامعة عرب” و”مستشفى العرب” يصرخ بأعلى صوت: “عودوا إلى رشدتكم وحافظوا على آخر خندق حضاري في الوطن: الجامعة الوطنية اللبنانية وكفّوا عن إعطاء تراخيص للجامعات إلا عبر معايير عالمية”.

*رئيس جمعية طبيعة بلا حدود

اقرأ أيضاً بقلم محمود الاحمدية

لبنان لن يموت

أكون حيث يكون الحق ولا أبالي

لماذا هذا السقوط العربي المريع؟!

جشع بلا حدود وضمائر ميتة في بلد ينهار!

جاهلية سياسية… بل أكثر!

معرض فندق صوفر الكبير والتاريخ والذاكرة

قال لي: عندما تهاجم الفساد ابتسم بألم!!

إذا أجمع الناس على مديحك سوف أطردك!!

التاريخ لا يرحم… يجب إعادة كتابته

ما هو دوري كوزير جديد؟

مشروع كمّ الأفواه تدمير للبنان الرسالة

السويداء في عين العاصفة

تقريران رسميان متناقضان عن تلوث بحر لبنان

في ذكراها الـ 74 اسمهان: قصصٌ خالدة

طبيعة بلا حدود ربع قرن من النضال البيئي

فريد الأطرش وشوبرت والفن العالمي الخالد

يوم البيئة العالمي: التغلب على تلويث البلاستيك

قطعة الماس في جبل من الزجاج

مسيرة منتدى أصدقاء فريد الأطرش تشع في دار الأوبرا في القاهرة

السفير المطرود ظلماً وقهراً