مصطفى فروخ وطريقه إلى الفن

د. قصي الحسين

في مقدمة كتابه عن تاريخ الفنون، يقول العلامة الراحل سلامة موسى: الفنون الجميلة، كما نسميها الآن، أو الآداب الرفيعة، كما يسميها العرب، هي: الموسيقى والشعر والنثر والرسم والنحت والرقص والغناء والتمثيل. وغاية هذه الفنون جميعها هو الجمال. ولكن الجمال ليس موضوعياً له حقيقة أصلية في الكائنات الّتي حولنا من حي وجماد، وإنما هو ذاتي في أذهاننا. فالعالم أو الكون نفسه ليس جميلاً أو قبيحاً، وإنما الجمال والقبح اعتباران ذهنيان أي قائمان في أذهاننا فقط”.
في هذا المجال، نذكر أن مصطفى فروخ، إذا كانت له فورات نفسية، عبر فيها عن عنفه في الكلام على الأشخاص الّذين تناولهم من رجال الاجتماع ورجال السياسة، ومن الفنانين المعاصرين له، خاصّة، وكذلك عن عنفه في عدد كبير من الأحوال الاجتماعيّة الّتي وصفها، فإن المسألة لا تقاس بكونه مخطئاً في حق أولئك الأشخاص أو في وصف تلك الأحوال، بل كان صريحاً وواضحاً كفنان، وهذا ما يجعل لما قاله قيمة كبيرة.
إلى ذلك، كان الفنان الكبير، المرحوم مصطفى فروخ، كما يقول عنه د. عمر فروخ نفسه، ناقداً فنياً بارعاً وواضحاً، لا تعوزه الدقة ولا الجرأة ولا الصراحة، وهو إذ يتصدى لغيره من الفنانين والأدباء والسياسيين في لبنان والبلاد العربيّة والاسلامية، إنما ليقول الحقيقة ويخدم الفن، بكل علم وكل تواضع، دون أن يتعالى على زملائه، رغم علوه عليهم، ودون أن يسيء إليهم، ولو أساؤوا إليه.
شكلت موضوعات الحياة كلها، مادة عظيمة لموضوعات فن عمر فروخ ونقده وأسلوبه، إن في اللوحة الّتي يرسمها، أو في الكلمة الّتي يقولها. وكان يرى أن كل عن من فنون المعرفة الإنسانية إنما يحتاج إلى فنون مساعدة. وكان أكثر ما يؤلمه، أن يرى الناس لا يؤمنون بالمثل العليا ولا يولون أي اهتمام للمصلحة العامة.
وكان أهم ما يريده مصطفى فروخ في الناس، أن يرى فيهم “إنساناً” يجمع معاني الانسانية، قبل أن يرى فيه شخصاً بلون أو بدين أو بسياسة. أو حتّى غنياً أو فقيراً. ولعل كتابه الموسوم: “طريقي إلى الفن” والذي أصدرته له مؤسسة نوفل في طبعته الأولى العام 1986، إنما يشكل بحق كتاباً نادراً، يضعه مصطفى فروخ نفسه بنفسه، عن الفن وفنه والطريق إلى الفن، وطريقه هو بالذات، الّتي سلكها إلى الفن. من لبنان إلى روما، وغيرهما من أرجاء العام. وهو الكتاب الذي دققه له الدكتور عمر فروخ وقال فيه: “كتاب فنان من الطبقة الأولى في قومه وفي غير قومه. هذا الفنان قد حاول أن يكتب سيرة ذاتية لنفسه فاستطاع أن يدلنا على المعالم الّتي بنت شخصيته الفنيّة. ثم إنه حاول أيضاً أن يكشف عن مجال البراعة عند غيره من كبار الفنانين منذ مطلع العصور الحديثة، إلى اليوم بنقد بارع قائم على أسس من العلم والاختيار”. ويضيف عمر فروخ فيقول: “ولم يجلس مصطفى فروخ في زاوية غرفته ويطلق لخياله العنان، ثم يكتب جملة عاطفية أو كلامية، بل زار المتاحف والمعارض، ووقف الساعات الطوال أمام ما فيها من لوحات، ثم دوّن ما شاهده بعين بصره وبعين بصيرته. أمّا النقد الاجتماعي، فاستمده من حياته في فرنسا وإيطاليا خاصّة، بعد أن قارن الحياة في لبنان بما شاهده في البلاد الأوروبية”.
ولد مصطفى فروخ، في بيت صغير في محلة البسطا التحتا من بيروت في العام 1902. ودخل الكتاب وهو ابن أربع سنوات عند الشيخ جمعة، وفي العام 1908، كان خطيب المدرسة الابتدائية الّتي أنشأها طاهر التنير. وفي أواخر العام 1912، كان يرسم صوراً كاريكاتورية بالحبر الصيني لمجلة المصور الّتي أنشأها طاهر التنير أيضاً. وفي أوائل العام 1913 حمل “راحة الألوان” Palette ووضع أمامه لوحة، ووقفت إلى جانبه ابنة المصور الألماني المشهور جول لند في محلة الزيتونة/ محل المصور الفوتوغرافي أسعد دقوني.
ورسم اثناء الحرب البلقانية (1912- 1913) صوراً للمعارك الحربية بين البوارج العثمانية والبوارج البلقانية، كما رسم بقلم الرصاص صوراً لأعيان بيروت، منهم: أحمد مختار بيهم وسليم البواب وسليم علي سلام والد صائب بك سلام، ويوسف بيضون والد رشيد بيضون مؤسس المدرسة العاملية.
وفي العام 1917، وجد عناية ورعاية خاصّة به من والي بيروت عزمي بك. وعندما حضر أنور باشا وجمال باشا في ذلك العام نفسه إلى بيروت، أقيمت حفلة في فندق “كاسمن” الألماني في محلة باب إدريس. فقدم لهما مصطفى فروخ صورتيهما، فأعجبا بهما. وكان مصطفى فروخ قد درس في “دار العلوم” لعبد الجبار خيري الهندي، فقضى فيها ستة أشهر من العام 1912. وكذلك قضى مدة في الكلية العثمانية، وهي الكلية الإسلامية فيما بعد لصاحبها الشيخ أحمد عباس الأزهري.
ودخل مصطفى فروخ المدرسة الإيطالية عام 1919 لتعلم اللّغة الايطالية. وتلقى درساً فنياً في الرسم العام 1916 على يد الرسام حبيب سرور. ثم قصد روما في 15/9/1924 ليثقف عبقريته الطبيعية بأصول الفن، فيتاح له في الغرب، ما لم يتح له في الشرق. وعاد إلى بيروت في 1/1/1928، وأقام معرضاً خاصاً لرسومه في دار الوجيه أحمد أياس، قرب محطة غراهام، قبل الجامعة الأميركية. وكذلك معرضاً عاماً آخر في الغرفة الخضراء، من منتدى وست هول، بحيث انطلق منه لنجاحه العظيم.
وسافر مصطفى فروخ إلى باريس عام 1930 وعرض في صالون باريس. وكذلك عرض صوره في معرض الفنانين الفرنسيين في باريس العام 1931. ثم شدّ الرحال إلى الأندلس فكانت تلك الرحلة الشهيرة إلى بلاد المجد المفقود، كما أسماها، فجدد عبقريته، وعاد منها بروح فياض من المجد العروبي، ومن الفن العربيّ. وتزوج مصطفى فروخ من السيدة ثريا بنت أحمد تميم فرزق منها صبياً هو هانئ سنة 1936 وبنتاً هي هناء عام 1945، ومات بداء اللوكوميا (سرطان الدم) في مستشفى المقاصد يوم السبت 16/2/1957 رحمات الله عليه، بعد أن ترك لنا طريقاً في الفن شكّل مدرسة لأجيال التشكيليين والرسامين الّذين أتوا بعده جيلاً بعد جيل.

اقرأ أيضاً بقلم د. قصي الحسين

كمال جنبلاط البيئي وإلتقاط البرهة!

مجتمع البستنة

الدكتور اسكندر بشير التجربة والرؤيا الإدارية

 ساق الحرب

جائزة إدلب

جميل ملاعب والقدس: تأبيد الرؤيويات البصرية

جسر السلام: ثوابت كمال جنبلاط الفلسطينية التاريخيّة

القتل السري عن كمال جنبلاط والقتل السياسي

حين السياسة بمفعول رجعي

ترامب والتربح من الصفقات

عن النظام يأكل أبناءه الفوعة وكفريا نموذجاً

 الرئيس القوي

 د. حسين كنعان وأركيولوجيا القيافة والثقافة والسياسة

 ضياء تلك الأيام

 عن كمال جنبلاط والفرح بالعمل

 تتجير السلطة

تيمور جنبلاط بصحبة والده في السعودية زيارة تاريخية إحيائية

 كوفية تيمور ومليونية القدس وجه آخر للاضطهاد والإحتلال

تجديد “نسب الخيل لابن الكلبي” ونسخ لمخطوطاته التراثية الثلاث

عاميات عبد الحميد بعلبكي في “حديث الشيخوخة”