د. حسين كنعان وأركيولوجيا القيافة والثقافة والسياسة

د. قصي الحسين

الثقافة السياسية الساطعة النافذة ولا أقول الناجزة، لدى الدكتور حسين كنعان في كتابه الأثير “الثقافة السياسية” (بيسان 2018)، إنما هي عقله الذي لا يمل من نزعة المونولوغ أو الديالوغ في تقصي السياسات والثقافات والحضارات، وتتبع أثرها، والحفر الدائم في حقلها كأركيولوجي عريق، أو كقائف، ينشد السبل الضائعة في أرض المهارات والحضارات، والتي بدورها تجعل من الظن يقيناً، ومن الأماني متوناً، وإن كان يتجلى فيها دائماً، العمق التاريخي والمستقبلي والبعد الاجتماعي والسياسي والانتربولوجي، فما بالك بالبعد النفساني والفكري؟ لما لا!

فالثقافة السياسية الساطعة، أو المعرفة القوية بها، إنما هي نتاج د. حسين كنعان، حين وافاها من بابها العريض، دون مواربة وبلا تردد أو أي خوف أو وجل، لعلمها المسبق، أنها نتاج كل من اشتغل بها أو عليها من الأساطين الكبار، على امتداد الحقب والمراحل الزمنية، بما فيها أزمنة ما قبل اكتشاف أبجديتها، بوصفها بنية تؤشر على معنى العالم، بل على معنى مستقبل العالم انطلاقاً من برهة يقظته الساخنة.

كقائف بعيد النظر، يستشرف د. حسين كنعان حقل الثقافة السياسية ويحفر فيه كأركيولوجي، لا يمل من بلّ القاع بعرقه ودقة بقاع نفسه، حتّى يصل إلى كنـز المعرفة بما هي “ثقافة سياسيّة” بامتياز. وهو الذي يقول في مفتتح تمهيده: “ليس من ثقافة سياسيّة راقية وصائبة، لا تقدس قيمة ومعنى الحياة، ولا تركز على إنسانية الإنسان، ويكون عنوانها الحفاظ على الحريات العامة والعدالة والمساواة. ويتوجب على المؤمنين بها والذين يحملون مبادئها أن يساهموا في بناء المؤسسات العامة، على أسس سليمة” (ص 5)

يجيء كتاب “الثقافة السياسية : قيم واتجاهات”، بعدما كان د. كنعان قد حفر في هذا الحقل أعواماً، بل عقوداً طويلة، فوضع: “شؤون سياسيّة – 1985″ و”اللعبة الدولية – 1996″ و”مسارات سياسيّة – 2005″، و”مستقبل العلاقات العربيّة الأميركية – 2005″ و”موسى الصدر قدر ودور – 2006” وكتابه ما قبل الأخير: “من جورج واشنطن إلى أوباما، الولايات المتحدة الأميركية والنظام الدولي – 2013”. وقد تمهل أخيراً ليرى، أن الثقافة السياسية تتفاوت من بلد لآخر بحسب دور المؤسسات العامة فيها ودرجة رقي المواطن وحركة التغيير الدائمة ودرجة التكيف مع دورات الحضارة، بالإضافة إلى مناخات الحرية والعدالة، ليعظم فيما بعد الإنماء الثقافي السياسي في بلدٍ ما من البلدان المرصودة، دون غيره من البلدان.

يهيء د. حسين كنعان في كتابه الموسوم: “الثقافة السياسية” (250 ص) من القطع الوسط لثمانية عناوين بارزة بنى عليها مؤلفه، جاعلاً منها أعمدة بحث ثابتة وأصيلة وشبه أكاديمية لصلة المؤلف بأصالته الأكاديمية، وهو الذي ما برح حتّى اليوم يزور أهم الجامعات العالمية وأهم مراكز البحوث، بصفته أستاذاً جامعياً وباحثاً مختصاً في الشؤون الثقافيّة والسياسات الدولية بعدما كان لوقته القريب نائباً لحاكم مصرف لبنان.

1- يتحدث عن الثقافة السياسية، بالحفر أولاً على النظام السياسي وكيفية ظهور القيادة الّتي تسعى للسلطة، مضوئاً على مسألة الديمقراطية من جهة وعلى معالم الثقافة السياسية من جهة أخرى، ومحذراً في الآن نفسه من وطأة الطائفية عليها ومن شر مخالبها الّتي كثيراً ما تنبشها فيها وتأكل من لحمها حتّى لتكاد تجعل منها كما يقول المثل العربيّ الشهير “لحماً على وضم” (مجمع الأمثال للميداني) (15- 58 ص).

2- وفي علم الاجتماع السياسي، ينطلق د. كنعان بدافع من هويته اللبنانية القاتلة بالأذن من “أمين معلوف – الهويات القاتلة”، للحديث عن النموذج اللبناني وعامل اللّغة والأرقام والحروف، وما اتصل بها من مقومات التراث اللبناني والعربي، وما أسهم فيها دور المؤسسات من أبنية متعددة ومناهج ناهيك عن إشاراته المخصوصة إلى الخوارق التراثية وإلى المقاييس المعمول بها تراثياً أيضاً، والى عوالم الديانات وسلالم القيم المؤشرة إلى صحة الثقافة السياسية أو زيفها (59- 78) ص.

3- وتحت عنوان ثقافة الاندماجية بمفهومها العلمي المعاصر، يشرع الباحث في الإضاءة والتنوير على أهم النقاط الحيوية لمعالجة هذا البحث، تلك المتمثلة بمفهوم الولاء ومفهوم الانصهارية وكذلك بمفهوم الاندماجية الاقليمية والدولية. ثم نراه يفرد بحثاً للحديث عن دور المؤسسات الدستورية في استقطاب الولاء وعن المشروع النهضوي العربيّ والأمن القومي والاندماجية القومية، وعن السلطة والقانون والتعاون من خلال الجامعة العربيّة، أو من خلال عامل اللّغة المعادل (79- 124)ص.

4- يحدث المؤلف عن نظرية التحالفات السياسية، إن من خلال الدور الآخر للثقافة السياسية، أو من خلال تقديم نموذج لحالة تحليلية تمثل هذه النظرية (125 – 158)ص.

5- كذلك نراه يتحدث عن ثقافة الهيمنة، كمفتاح للنظام الدولي من زاويتين اثنتين: أ- الرؤية السياسية المعاصرة والحق المطلق. ب- الذات الوطنية وسلوك القيادة. مستشهداً على ذلك بتقديم نموذج تحليلي مكافئ للبحث (159- 198)ص.

6- وتحت عنوان “الثقافة السياسية في لبنان ومفهوم التغيير، يقف الباحث الأكاديمي أمام ثلاث محطات في تاريخ الثقافة السياسية الّتي شهدها لبنان منذ الاستقلال وحتى اليوم: أ- المحطة الايديولوجية الثورية. ب- المحطة النوعية لدى اللبناني. ج- محطة الثورة الاجتماعيّة. وقد حصد بذلك معطيات ثقافية وسياسيّة بارزة، أولها ثقافة الولاء وثانيها ثقافة الحق في تحرير الجنوب (199- 220)ص.

7- وعن رؤيته “لمعطيات الحلم والتآلف الاجتماعي”، يتحدث الباحث عن المبادئ الّتي يسير عليها مجلس الجامعة العربيّة، وعن أهم بنودها وعن النواحي الاقليمية والدولية الّتي تحيق بها. ناهيك عن دور الجغرافيا في تحديد المواقف والمهام والمفاهيم
(221- 232)ص

8- وأفرد الباحث عنواناً أخيراً مثيراً للغاية أسماه: “ثقافة المختبر في سياسة الأنظمة”، تحدث فيه عن نظام الرعب النووي المستجد في العالم: أميركا – كوريا الشمالية – إيران وغيرها من الدول. ويختم هذا الفصل بالقول: “يبقى على أميركا، أن تغير نهجها وإدارتها، وتعود إلى مبادئ “ولسن” ومدرسة المؤسسين الأوائل، ليشعر العالم بأنه شبه آمن. (ص 245)

كأني بالدكتور حسين كنعان، يريد أن يقول في خواتيم كتابه أن حملات تدمير الثقافة السياسية، بعيدة كل البعد عن أن تكون مجرد شر محض، لأنها عمليات موجهة نحو هدف مرسوم وخطط مسوغة بعناية في إطار الصراعات القائمة بين قوى متعارضة. ذلك أن التدمير الثقافي/ السياسي، إنما يمسخ الناس أشباحاً وعبيداً، ليستنـزف فيهم الطاقات العلمية الخلاقة وليقلص هذا الإرث النوعي بين البشر. وإذا كانت الثقافة تضفي هالة كبيرة على العدو وبلده ونظامه السياسي، فإن قهر هذه الثقافة يجب أن تتضمن نزع هذه الهالة عنه وعن سياساتها الّتي يتبعها، وأخشى ما يخشاه المؤلف أن تتحول الثقافة السياسية عن خدمة الفرد إلى أدوات سياسيّة أخرى لخدمة الأهداف الاستعمارية.

ومثلما يقلل هلاك نوع واحد السلامة البيئية لإقليم ما، فكذلك يضعف تدمير ثقافة سياسيّة ما لجماعة ما، بوصفها حافظات الذاكرة والتراث الثقافي المشترك للعالم. فهل صون الثقافة السياسية هدف عالمي أو أنه خاص بحساسيات الثقافة الغربية.

قيافة أو أركيولوجية د. حسين كنعان، في كتابه الموسوم “الثقافة السياسية” تحكي حكاية اللبناني الأكاديمي المثقف والمسيس، مثلما تحكي قصة عشق وسيرة حياة وهنيئاً لمن استطاع أن يستبقي أصالة القديم تصافح وضاءة الجديد. فكم أراق حبراً في كتابتها، حتّى تتجدد على يد الأجيال الصاعدة.

 

* أستاذ في الجامعة اللبنانية

اقرأ أيضاً بقلم د. قصي الحسين

كمال جنبلاط البيئي وإلتقاط البرهة!

مجتمع البستنة

الدكتور اسكندر بشير التجربة والرؤيا الإدارية

 ساق الحرب

جائزة إدلب

جميل ملاعب والقدس: تأبيد الرؤيويات البصرية

جسر السلام: ثوابت كمال جنبلاط الفلسطينية التاريخيّة

القتل السري عن كمال جنبلاط والقتل السياسي

حين السياسة بمفعول رجعي

ترامب والتربح من الصفقات

عن النظام يأكل أبناءه الفوعة وكفريا نموذجاً

مصطفى فروخ وطريقه إلى الفن

 الرئيس القوي

 ضياء تلك الأيام

 عن كمال جنبلاط والفرح بالعمل

 تتجير السلطة

تيمور جنبلاط بصحبة والده في السعودية زيارة تاريخية إحيائية

 كوفية تيمور ومليونية القدس وجه آخر للاضطهاد والإحتلال

تجديد “نسب الخيل لابن الكلبي” ونسخ لمخطوطاته التراثية الثلاث

عاميات عبد الحميد بعلبكي في “حديث الشيخوخة”