هذا قدر المختارة مع العهود… والتاريخ يعيد نفسه

لقب المعلم الشهيد كمال جنبلاط بصانع الرؤساء. عند كل استحقاق رئاسي، كان المعلّم يجول بالمرشحين بسيارته مجرياً إختبارات لهم لاختيار الرئيس بينهم. وكان قدر المختارة أن تصنع عهوداً تنقلب عليها. منذ الثورة البيضاء التي أتت بالرئيس كميل شمعون مدعوماً بالجبهة الإشتراكية والتي أسسها جنبلاط ووافق شمعون على برنامجها المرحلي ووقع عليه، لكنه عاد ولحس توقيعه. فحصل الخلاف وتراكمت التطورات إلى أن وصلت إلى ثورة العام 1958. كان المعلم يريد إيصال قائد الجيش فؤاد شهاب في العام 1952، لكن شهاب رفض ذلك، فطلب منه أن يشهد على توقيع شمعون، لكن الرجل قال إنه لا يستطيع ضمان رئيس حزب الوطنيين الأحرار.

انقلب كميل على كمال، وشهد الشوف والجبل احداثاً دامية. ذهب جنبلاط إلى خيارات بديلة، فاتهم حينها بأنه متقلّب ويدور في المواقف. مع العلم أنه خطى خطاه كردة فعل وليس كفعل ناجم بحد ذاته. في عهد فؤاد شهاب، عاش لبنان معاني إنتصار ثورة الـ 1958، وتحققت إنجازات أساسية على صعيد الإدارة، التنمية الإقتصادية والإجتماعية والتربوية والتنموية. لتستكمل الشهابية مسارها، مع الرئيس شارل حلو. وفي العام 1970، كان قدر كمال جنبلاط أيضاً أن يكون مقرراً لمسار الإنتخابات الرئاسية. حصرت المعركة في حينها بين سليمان فرنجية والياس سركيس، فكانت نتائج إختبارات جنبلاط لصالح الأول الذي أصبح رئيساً في اليوم التالي بفارق صوت واحد عن منافسه، وصاحب الصوت كان كمال جنبلاط.
انقلب فرنجية على تحالفه مع جنبلاط، وأخل بالتزامات كانت قد عقدت بينهما. ذهب أكثر باتجاه الجبهة اللبنانية، فيما ذهب جنبلاط إلى تأسيس الحركة الوطنية. وأيضاً اتهم بأنه انقلب على تحالفاته، فيما فرنجية هو الذي انقلب. قدر المختارة أن تعاني الإنقلابات وتتهم بها. يعيد التاريخ نفسه هذه الأيام. كان وليد جنبلاط سبّاقاً في التلميح إلى تبني خيار المسيحي القوي للخروج من الفراغ الرئاسي. مهد في أكثر من محطة لحقبة إنتخاب ميشال عون رئيساً للجمهورية. وكان قد استبق ذلك في معركة قيادة الجيش وتعيين قائد يخلف العماد جان قهوجي فبادر إلى تسمية العميد شامل روكز لهذا المنصب نزولاً عند رغبة الطرف المسيحي الأقوى.

نضجت التسوية بين تيار المستقبل والتيار الوطني الحرّ. وكان جنبلاط يعلم بأن تحالفاً من هذا النوع، أو وصول عون إلى رئاسة الجمهورية، مسألة فيها مجازفة، لأن التاريخ بين الرجلين ليس فيه من التلاقي أي التقاء. بنى عون “تسونامه” الإنتخابي والشعبي على مهاجمة جنبلاط ومواجهته، لكنه لم يستطع أن يحقق أي خرق في الشوف، وعلى الرغم من نبش القبور في أكثر من محطّة، بادر جنبلاط إلى التصويت لعون ودعمه، وفتح صفحة جديدة وإطلاق عهد جديد.

لكن منذ بداية العهد ومحاولات التطويق مستمرّة. بدأت لعبة إعادة إحياء الثنائيات السنية والمارونية، في استهداف واضح لجنبلاط ودوره، وهو كلام قيل على لسان أكثر من مسؤول. لكن بقي خيار التسوية هو الأوحد لدى المختارة التي بادرت في الإنتخابات النيابية إلى فتح الأبواب أمام الجميع ومد اليد لكل القوى، لكنها قوبلت بالمحاربة وبخطاب متجدد لنبش القبور. انتصر جنبلاط انتصاراً ساحقاً، وحين فشلت مرامي الآخرين، لجأوا إلى طريقة أخرى للتطويق عبر مد اليد إلى التمثيل الحكومي الدرزي فوقف جنبلاط بالمرصاد.

لا يراد بوصف ما يجري بأنه إنقلاب على التسوية، لكن الأكيد ان كل هذه المحاولات ستصطدم بإصرار المختارة على الحفاظ على التسوية، والتنوع ضمن الوحدة، ولكن ليس بالتنازل. والأهم بالنسبة إلى وليد جنبلاط هو حماية الطائف، الذي عمل البعض على تهشيمه. وإرساء قواعد جديدة في التكليف والتأليف والممارسة. لا تستهدف مواقف جنبلاط العهد ولا أي طرف، بل هي تستهدف ضرب الطائف، وكل محاولات السمسرة أو فتح مزاريب فساد جديدة. وهذه حرب لا هوادة فيها ولا تراجع، بمعزل عن التسوية السياسية والحصص الحكومية.

ربيع سرجون – “الانباء”