تتجير السلطة

د. قصي الحسين

في مفتتح مجلة تاريخ العرب والعالم (م 43 – عدد 293 أيار وحزيران 2018) وتحت عنوان دولة “الطائف” لا دولة المستقبل يقول الوزير والنائب السابق الأستاذ عمر مسقاوي: “إن الواقع السياسي الذي يسيطر على كل مرافق الدولة، يبدو حتّى الآن نتيجة للحرب الّتي استمرت سبعة عشر عاماً، وليس قلباً لصفحتها”. فحين نستعرض مجريات الأحداث الّتي استمرت سبعة عشر عاماً، ونستعرض أفرقاءها معاً، يقول مسقاوي متابعاً، ثم نستعرض كل المقولات الّتي كانت موضع الجدل السياسي، فنرى المشهد مستمراً في فصل جديد. فـ”التخاطب الذي كان عبر المدفع” طبقاً لمقولة كلاوز فيتس “أن الحرب هي استمرار للسياسة، إنما بوسائل مختلفة” أضحى اليوم خطاب المواقف والمواقع.

وبتعبير آخر، يعيش لبنان اليوم، أكثر من أي وقت مضى توازناً في السلطة، صاغه اتفاق الطائف، وليس تواتراً اجتماعياً طبيعياً للدولة والمجتمع بصياغة من التاريخ والثقافة. وأفرقاء سبعة عشر عاماً من الفتنة، أصبحوا نوعاً من المرجعية الدستورية لمسار الدولة. ولكل منهم الحق في أن يطالب بحيزه في الوجود السياسي طالما أنه خاض مع الخائضين في الحلبة على كل صعيد، ولو بالجرأة على هيبة الدولة في مختلف المواقع. (نفسه ص 3).

في كل حالة انتقال للسلطة، كانت السياسة في لبنان تزداد تعقيداً على مرحلتها السابقة. وهي تدمج طوعاً أو كرهاً، مزيداً من أفرقاء سبعة عشر عاماً من الفتنة، ضمن دائرتها. فيتقارب هؤلاء الأفرقاء أو ما تفرع عنهم في دائرة السلطة هذه حول نماذج وممارسات وأفكار بعينها، ويزداد في الوقت نفسه الافتراق بين متصدري السلطة والمقطوعين عنها. ومع تزايد ضرورة الدفاع المحلي، ربما تغلبت المصالح على مشهد السلطة، باعتبارها القاعدة الأساسية للتضامن، أو هكذا يفترض، وغرد كل من أفرقائها في “دائرة المرجعية الدستورية” كل بحسب مصالحه، لا بحسب المبادئ الّتي رست عليها هذه المرجعية الدستورية. وأينما اختارت النخب والأطراف السياسية في السلطة، متصدرين فيها ومقطوعين عنها، أن تحاكي الأنماط السياسية الدستورية الأكاديمية، بالسعي الحثيث إلى اكتساب تقاليد وعادات نبل السياسة ونبل السلطة، كان عليها أن تتخلى عن التتجير بها وبالطقوس والحقوق والتقاليد والعادات بمنـزعها العصبوي الايثاري الانفرادي الشهوي الوحشي البغيض.

وبعد الانتخابات النيابية الأخيرة والشهيرة، كانت نخب حاكمة ضيقة، قد حلت محل حق الانتخاب الأوسع الذي ساد خلال الأزمان الكلاسيكية منذ الاستقلال وحتى ما قبل الحرب الأهلية الّتي توقفت بصيغة “الطائف” وأصبح اللبنانيون عموماً مجرد متفرجين على مراسم ومراسيم عامة. ولم تتمتع الجماعات اللبنانية الناخبة فعلاً، حتّى بمكانة المتفرج، مع أنهم هم الّذين نزلوا إلى صناديق الاقتراع، وهم ممن حرصوا على الحفاظ على الهوية الوطنية اللبنانية، وعلى ذكرى الحرية والديمقراطية والأمجاد الشعبية القديمة ومحاكاتها.

ألزم “الطائف” أفرقاء حرب السبعة عشر عاماً، بالتخلي عن السلوك العدواني الذي ساروا فيه طيلة تلك المدة. وعملت النخبة الّتي تصدرت السلطة في مجتمع التسعينيات على تحقيق الاستقرار، وكان اللبنانيون الّذين لا يشتركون في تراث الطائف، مصدر ازعاج وخطر. ولذلك سعت السلطة إلى إبقائهم بعيداً. ولا شك في أن سياسة الانكفاء المحافظة على لبنان هوية وتراثاً ومجداً والتي اتبعها المبعدون، كانت فرصة لتضخم عدد السكان، ولبناء السلم الأهلي المستدام ولإزالة آثار حرب سبعة عشر عاماً من الركاميات وتتجير السلطة في الإنماء والإعمار. فنشأت سوليدير، ونشأ معها مجلس الإنماء والإعمار. وكان التتجير بالعقارات يسلب حقوقاً من ضعفاء اللبنانيين، ويزيد حقوقاً في ملكيات المترسملين. وكانت نخبة ملاك الأراضي المترسملين، هي وحدها الّتي تحصد أي نفع مباشر. أمّا عائلات المسلوبين من اللبنانيين وكذلك الطبقة الوسطى والفقراء تدخل سوق الطائف بإرادتها للحصول على المال، لدفع الضرائب وبدلات الريوع وشراء القوت، من اقتصاديات المزارع العقارية والمشاريعية والتتجير بها.

وأعجز التنافس المحلي الحكام في التسعينيات عن التدخل في شؤون التجار والممولين، ما أعطى أصحاب المصالح المالية استقلالية غير عادية. وكان من العوامل الأساسية الّتي مكنتهم من ذلك، أن مواقف المترسملين وملاكي المشاريع والأراضي، قد تجرت على نحو متزايد منذ بعد الطائف. وفجأة أصبح الفن العسكري اللبناني الجديد أشد تعقيداً. ولم تستطع براعة المقاومة الإسلامية الّتي انفردت بالساحة، أن تحول دون الحروب الإسرائيلية على لبنان وآثارها المدمرة. مما أوصل التتجير بها إلى درجات عظمى. وساعد انتظام الأجور وتصحيحها، وشراء الأسلحة والإمدادات الأخرى، من أقل “مقدم عطاء”، في جعل الاحتفاظ بقوة مسلحة محترفة، مسألة حسابات مالية دقيقة لما هو “مطلوب” ولما هو “مكسوب” وما يمكن تحمله.

إن تتجير السلطة آنذاك، كما اليوم، أحدث نتائج متعارضة وأصبح بمقدور التجار والمتمولين المحليين والخارجين المحميين سياسياً، أن يؤسسوا على النطاق الطائفي والمناطقي ومدى التمايز بين الجماعات اللبنانية سوقاً جديدة، لفرضها على الجماعات اللبنانية الّتي تدفع الضرائب، أو تدفع خارج البلاد. ولم يكن بمقدر أي سلطة حاكمة في لبنان، أن توقف التتجير المتواصل للمجتمع. فزادت الثروات وتعمق الفقر وكثر الفقراء، لأن كثيراً من اللبنانيين لم يتمكنوا من التوافق مع قواعد سلوك السوق و”التربيح”. وعلى ذلك فإن رواد الأعمال الطموحين، كانوا بحاجة إلى “السلطة القسرية” المنبتة عن السلطة الديمقراطية، لإنتاج السلع للسوق بربحية مغرية. وقد أصاب قائد برتغالي حين قال: “إن النصر يكون من نصيب الملك الذي يبقى معه آخر “إسكودو Escudo” (عملة اسبانية وبرتغالية قديمة).

ومع نمو دور “التتجير” في الربيع العربيّ ولواحقه وفروعه في لبنان، تغير توزيع الثروة والدخل. وهو ما حدث في أوضح صوره في حقول المكافآت والترقيات والتجنيس. وكانت هذه المغامرات السياسية سواء بمرسوم أو بغيره وفوضى الفضاءات الجديدة للربحية الجديدة، في إطار مشروعية السلطة المنبثقة عن الديمقراطية وانتخاباتها والمنبتة عنها في الوقت عينه، ترصد حقلاً يذهب من تتجير مختلف بيوع العقارات والمشاريع إلى التتجير “بصكوك الغفران” و”ترفيع بالأقدميات” وتجنيس لأصحاب الثروات،  والتي فاقت ما مجموعه ثلاثماية مليار دولار. ورصد في هذا الإطار: حالة اللواء جميل السيد وحالة ترقية الضباط وحالة المجنسين الأربعمائة بمرسوم وحالة إعادة النازحين السوريين. وأصبحت مكانة السلطة، تقوم على الربحية الناتجة عن التتجير والمال، أكثر منها على الشرف أو الأسلاف أو التسليف. فتراجع ما كان يجري تبادله من خلال التبادلات التقليدية والرمزية للسلطة، إلى شكل إتاوات. أو حسابات مالية وأرصدة بنكية، مع أنها لم تصبح كذلك كلياً في أي عهد من العهود القديمة والحديثة. فبدت هذه التطورات أقوى اليوم من أي حقبة أخرى.

بدا لبنان مؤخراً على خلفية مرسوم التجنيس والذي نسخه، أو كاد ملف اللاجئين السوريين لدى منظمة الأمم المتحدة، وكأنه يدخل عهد التتجير الحر والربحية الحرة الذي يقوم فقط على القاعدة المادية. فجعل أربعة اركان السلطة : الرئاسات الثلاث زائد المقاومة الإسلامية، روافد طائعة لها. وكل موجات تحرير لبنان مجتمعة، وكل موجات كنس الحرب الأهلية بـ”الطائف” وبـ”الدوحة”، وكل موجات إعماره بسوليدير أو بمجلس الإنماء والإعمار أو بصندوق الجنوب، مجتمعة، تتضاءل أمام ما أحدثه مرسوم التجنيس منسوخاً بملف اللاجئين السوريين والصراع المزيف عليه.

وحكمت القنانة على اللبنانيين بعد الانتخابات النيابية، بأن يعيشوا تحت تهديد الإفلاس، من ذلك توقف مصرف لبنان عن مشروعه مشروع الإسكان للعام 2018، وعن مشروعية مشروع مراقبة الهدر والفساد وتصحيح الأجور وتعطيل التوظيف ورفع أسعار المحروقات والصراع على السلطات والصراع على نتائج الانتخابات النيابية، ناهيك عن الصراع على توزير نائب و”توقيع وزير”.

برأينا وصل لبنان بعد “الانتخابات” إلى ما قبل “الطائف” بقليل. ,اصبح في ظل العهود منذ الرئيسين: الياس الهراوي ورفيق الحريري وحتى الرئيسين: ميشال عون وسعد الحريري، يحتاج إلى الانقلاب على مفهوم هذا النظام الذي ظل خلالها طبيعياً وأخلاقياً في معظم الاجتماع اللبناني، وهو يبدو اليوم غير أخلاقي وغير مربح، أو غير رشيد سياسياً. وما أنجزه ملف اللاجئين السوريين الناسخ ومرسوم التجنيس المنسوخ، أنجزه قبله ملف سوليدير وملف باب التبانة وجبل محسن وملف جرود عرسال وملف فجر الجرود. ولا طائل من بعد للتتجير الفينيقي بالأبجدية والموركس واختراع الصبغات الارجوانية ما دام تتجير السلطة قد فاق بيع “صكوك الغفران”.

* أستاذ في الجامعة اللبنانية

اقرأ أيضاً بقلم د. قصي الحسين

كمال جنبلاط البيئي وإلتقاط البرهة!

مجتمع البستنة

الدكتور اسكندر بشير التجربة والرؤيا الإدارية

 ساق الحرب

جائزة إدلب

جميل ملاعب والقدس: تأبيد الرؤيويات البصرية

جسر السلام: ثوابت كمال جنبلاط الفلسطينية التاريخيّة

القتل السري عن كمال جنبلاط والقتل السياسي

حين السياسة بمفعول رجعي

ترامب والتربح من الصفقات

عن النظام يأكل أبناءه الفوعة وكفريا نموذجاً

مصطفى فروخ وطريقه إلى الفن

 الرئيس القوي

 د. حسين كنعان وأركيولوجيا القيافة والثقافة والسياسة

 ضياء تلك الأيام

 عن كمال جنبلاط والفرح بالعمل

تيمور جنبلاط بصحبة والده في السعودية زيارة تاريخية إحيائية

 كوفية تيمور ومليونية القدس وجه آخر للاضطهاد والإحتلال

تجديد “نسب الخيل لابن الكلبي” ونسخ لمخطوطاته التراثية الثلاث

عاميات عبد الحميد بعلبكي في “حديث الشيخوخة”