كيف نستلهم العبر من نهج “ميركل” وسياسة الحكم في المانيا؟

د. كليب كليب

مما لا شك فيه أنّ لزيارة المستشارة الالمانية انجيلا ميركل  الى لبنان والاردن أهداف تتصل بما يجري في منطقة الشرق الاوسط ومنها ما يتعلق بموضوع النازحين السوريين ودور ايران في المنطقة.

إلا انّ لهذه الزيارة، والتي أتت بعد أقل من خمسة أشهر على زيارة الرئيس الالماني “فرانك فالتر شتاينماير” الى لبنان في اواخر كانون الثاني من العام الجاري، أهداف أخرى تتمثّل بتعزيز العلاقات بين المانيا وبلدان الشرق الاوسط في وقت تتعاظم فيه مكانة المانيا على الساحة الدولية. فكيف استحقت المانيا هذا الاحترام وهذه المكانة في العالم؟

كانت المانيا التي دٌمرت بشكل كبير خلال الحرب العالمية الثانية قد قٌسّمت كما هو معروف الى دولتين: إحداهما تخضع للنفوذ السوفياتي والاخرى للنفوذ الغربي وأُجبرت على التنازل عن اقليمي الالزاس واللورين الصناعيين المتنازع عليهما مع فرنسا كما تمّ اقتطاع مساحات واسعة من شمال شرق المانيا تمّ ضمّها الى بولندا تعويضاَ لها عن المناطق التي اقتطعها  الاتحاد السوفياتي من شرق بولندا.

وكان من اللافت أن المانيا الشرقية غدت بعد وقت قصير اكثر البلدان الاشتراكية  تقدماَ. أما المانيا الاتحادية (الغربية) فعلى الرغم من أنها كانت مجبرة على استقبال وإيواء اكثر من 13 مليون نازح الماني تمَ تهجيرهم من الاقاليم التي ضمت الى بولندا، فقد غدت بعد أقل من عشر سنوات الدولة ذات الاقتصاد الاقوى في العالم بعد الولايات المتحدة الاميركية.

وبعد انتهاء الحرب الباردة وتهيوء الظروف لإعادة توحيد المانيا، تكفّلت المانيا الاتحادية وهي الاكثر عدداَ في السكان والاكثر ثراءَ من المانيا الشرقية، بدفع تكاليف هذه الوحدة والتي بلغت حوالي المائة مليار دولار وفق اسعار صرف العملات في تلك الفترة (1990).  فقد تمّ إنفاق حوالي 65 مليار دولار لتحديث البنية التحتية وتطوير قطاعات الانتاج في شرق البلاد، كما تمّ دفع حوالي 35 مليار دولار كتعويضات للقوات السوفياتية المرابطة في المانيا لمغادرة البلاد.

لقد تمّ في تلك الفترة تزويد المنشآت الصناعية في شرق المانيا بالتقنيات الحديثة وتحديث كل قطاعات البنية التحتية من مدارس وجامعات ومطارات ووسائل نقل مختلفة حتى انه تمّ نبش سكك الحديد وتغييرها. هذا بالاضافة الى المساعدات العينية، فقد قدّمت المانيا الاتحادية لشقيقتها الشرقية على صعيد المثال هبة مكونة من مليون سيارة مرسيدس في حين أن عدد سكانها لم يكن يزيد عن 17 مليون نسمة (وهذا ما أدى الى ارتفاع اسعار هذا النوع من السيارات في الاسواق العالمية في تلك الفترة).

وحيث أن العديد من الدول كان يعتريه الخوف والحذر من إعادة توحيد المانيا (الولايات المتحدة  الاميركية، فرنسا، بولندا بطبيعة الحال… وغيرها) فقد بادر الرئيس الالماني في خطوة تاريخية مهمة الى الإعلان أن ألمانيا الموحّدة قررت أن تعيش بسلام ووئام مع كل جيرانها لذا فهي تعترف رسمياّ بكل الاتفاقات التي أقرّت بعد الحرب العالمية الثانية ومنها اتفاقيات رسم الحدود ومنها الحدود الجديدة بين المانيا وبولندا.

وبمواجهة النزعة النازية التي انتعشت بعد توحيد المانيا (خاصة في الاقاليم الشرقية) والداعية الى إقامة الدولة الالمانية العملاقة عن طريق ضم الدول والاقاليم التي ينطق سكانها بالالمانية، كان كلام هيلموت كول بمنتهى الشجاعة والعقلانية والاقناع إذ كان يكرّر” لماذا تريدوننا أن نعمد الى تغيير الحدود وخلخلة استقرار الدول المجاورة طالما أنّ الجميع على أتمّ الاستعداد للعيش معنا بسلام وتحت المظلة الالمانية في أوروبا موّحدة تتسع لكل سكانها” مُذكّراَ بأن المانيا هي الاقوى والجميع مستعد للسير معها وبأن دورها كان أساسيٌ في قيام السوق الاوروبية المشتركة والعملة الاوروبية الموحدة.

يٌعتبر نهج أنغيلا ميركل في الحكم (وهي المتحدّرة من شرق المانيا) ومسلكها السياسي الذي يتّصف بالنزاهة والبساطة والتفاني في العمل استمراراَ لنهج تيار الوسط الذي حكم ألمانيا الاتحادية قبل التوحيد وألمانيا الموحدة لاحقاَ، إذ تناوب على الحكم كلٌّ من تياري يمين الوسط ويسار الوسط. كما يُعتبر استمراراَ لنهج بُناة المانيا الحديثة من المستشار أديناور الى وزير ماليته وخليفته لودفيغ إدهارت (وهو مٌدبّر الاقتصاد الالماني لمدة خمسة عشر عاماَ) الذي اختار ان يسلك مسلكاَ معاكساَ للبيروقراطية الروسية والهتلرية بالإضافة الى هيلموت شميث وهيلموت كول وآخرين.

لقد سارت القيادة الالمانية موحّدة بإتجاه السلام في ظل نظام لامركزي شديد التنظيم فاستعادت وحدة ألمانيا وحققت وحدة أوروبا وتسعى لان  تلعب دورا ريادياً في السياسات الدولية.

وفي الختام، لا أرغب في إفساد مزاج القارىء الكريم ولكنني مضطرٌ أن أذكّر وعلى سبيل المقارنة أنّ الدعوة الى الوحدة في البلاد العربية قامت وتقوم على الإكراه والعنف والتسلّط كما أنها أخذت وتتخذ مبدأ الغزو والسلب نهجاَ ومسلكاَ، لذا فهي غير مرغوبة وستبقى غير مرغوبة.

(الأنباء)