على هامش تغريدة جنبلاط السياسية والرئاسة

د. قصي الحسين (النهار)

أثبتت التجارب السياسية، أن الإلغاء لا يلغي. بل هو في أبعد سطوته وأقسى طعنته، لا يعدو أن يكون حافزاً للتحدي، ودافعاً للثبات والرد على تجربة الإلغاء بإطفاء نارها والابتراد بثلج السياسة الّتي تعالج الوتر بليونة الموقف وتدوير الزوايا، وبتعلم فن الحربيات باكتساب مهارة فن الصعود والهبوط من أسفل القلعة، إلى أعلاها  وبالعكس.

كذلك أثبتت التجارب الرئاسية، أن الرئاسة ليست السدّة بل هي القوى التشغيلية في المطبخ وفي الفناء الخلفي، وما اختارت ومن اختارت لإدارة الوقت وتحضير المواد وإنضاجها لا حرقها، حتّى تكون صالحة لا فاسدة. تراعي شروط التخاطب السياسي وصحته، وتحفظ الإنتاجية بلا لوثة أو تلوث، وتقدم المواد السياسية بلا يبوسة ولا عفونة ولا شطارة ولا قذارة.

ليس سراً الحديث عن عسر الولادة واعتلاء السدّة. فقد احتاجت السياسة واحتاج السياسيون لأكثر من عامين ونصف من عمر الاستحقاق الرئاسي، حتّى أبصرت السدّة الفارغة من يملؤها، بشروط لم تعد خافية على أحد. حرنت الأكثرية النيابية وفضلت العزوبة ولا العريس. وجندت القوى الخفية أقصى طاقاتها للسماح لتمرير الكرة بعد مشاق تجربة المعمودية، حتّى تطوعت الإرادات السياسية للوحدة الانصهارية لا الوحدة الوهمية. على أساس من النهوض بمفهوم المواطنة وتجديده، لبناء مجتمع متعدد، والقسم على شرف التعددية، لا على قسمة الحصرية.

وفي حفل “التنصيب” على الهواء مباشرة، كانت المرايا تعكس وجوه الناس الخفيفة والثقيلة والرشيقة، على أن برهة اعتلاء السدّة، قد تأكد لها بلا تمويه، أن الناس ليسوا معادن قابلة للذوبان في فرن الحفل، ومن ثم للتحول إلى عنصر جديد. بل إن الناس مختلفون. وأن نرجسية الاختلاف ستظل تلعب دورها الذي اعتادت عليه، لبوساً شفافاً بلا تزويق وبلا مكر وبلا دهاء، إلاّ فيما تناور عليه من تحديد الهويات والخيارات، وإلاّ فيما تراهن عليه في رسم المسارات وفي تظهير التطلعات في دروب السياسة وطرقاتها الوعرة، والتي لم تكن يوماً معبدة، خصوصاً إذا ما كانت “السدة” تحسن قياس الزمن بين مهلة العشرة أيام لامتلائها، والحاجة إلى سنتين ونصف السنة لاستحقاقها.

وعلى قاعدة من ذلك كله، يجب أن تفهم تغريدة وليد جنبلاط الّتي “أخذت منقار طائر وحطت نقطة حبر بمرج ابن عامر” ، وهي لا تند عن سكة تغريداته السابقة في شيء، وهل التغريدة إلاّ ذاك: كثافة في الرؤيا تنضح عن شعور عميق بالمواطنة، الّتي يرتفع صرحها عادة، كما يرى الأكاديميون والباحثون، على أعمدة المساواة في الحقوق والواجبات، وعلى أساس احترام الحريات الخاصة والعامة. وتاجها الموقف السياسي الحر المعبر عن شعور عميق وحاد ولو فنياً، تماماً كما “الغرافيتي” الذي يرسم على جدار الزمن أو كما تنقش الطهرية المؤسسة مشاعرها المقدسة في حوائط كهف الروح والبدن، وتحملها الرسالات للناس من عوام وخواص.

من الضروري التمييز بين مصطلحين: 1- السدّة الرئاسية بما هي مكوث وثبات. 2- العهد، (الذي عهدت إليه الرئاسة بإدارة الوقت) بما هو إدارة وحركة وإصابة وخطأ. وكذلك من الضروري، فهم السياسة في برهة الجلوس والتنصيب والمكوث. على أنها مثلما هي فن المعاهدة والموافقة، هي بالتالي فن المناقضة والمعارضة.

لا يشذ وليد جنبلاط في تغريداته كلها عن أن يحملها رسائله المعارضة، لإدارة الملفات وإدارة وقتها، لا على أنها تنقض برهة السدّة والمكوث في أعلاها، بل على أنها تحذر وتنبه لما يعده الطهاة في مطبخها. فالهامش الذي يمايز السدّة عن فنائها الخلفي، ويمايز الرئاسة وحوزتها وحيازتها عن شخوص إدارتها ورجال حاشيتها، إنما جعل للإفاقة لا للإعاقة. وتغريدات وليد جنبلاط تستيقظ الناس والحواس. من هم في السدّة، ومن هم في فنائها ومطبخها، ومن هم في حقول المواطنة الشاملة، على أساس من الحريات، لا على أساس من الارتهانات.

وقد حرص وليد جنبلاط على صياغة تغريداته الجنبلاطية على تويتر، وسكبها في قالب رشيق، إنما ليجعلها مسكوكة مفهومة سهلة التداول، تشرح نفسها بنفسها وتعبر عن نفسها بنفسها بلا عنف ولا تعنيف، وعلى من يطيق “تحمل مجامر الكرام” لأجل الوصول والمكوث والتنصيب على مدى أعوام وأعوام، فكيف هو لا يطيق تغريدة تحذير من عثرة السقوط في شرك فخ ومن شره المستطير.

تغريدات وليد جنبلاط تنقر الصمم، لتفتح الآذان أمام إرادة السماع ومشروعيته في المجتمع من أسفل الهرم إلى رأسه. تنبه وتحذر لما يحاك وينسج في الأفنية والمطابخ وما وراء الأكمة. وفي المثل القديم: “إن ما وراء الأكمة ما وراءها”. وليست التغريدة الأخيرة لوليد جنبلاط، أكثر من كاشف في برهة الظلمة وقديماً قيل: “لو ترك القطا ليلاً لناما”. ونفير جنبلاط الدائم في تغريداته وتحذيراته، حتّى نحذر حذر القطا في ظلمة الليل وغزوة الخيل وخوفاً من أن يذهب اللبنانيون تحت الحوافر.