قرية «بانمونجوم» ومستقبل المخاطر النووية

د. ناصر زيدان (الخليج الإماراتية)

تتحمَّل قرية «بانمونجوم» التي تقع في المنطقة المنزوعة السلاح بين كوريا الشمالية وكوريا الجنوبية مسؤولية كونية كبيرة، ومن بين غاباتها الكثيفة، ومنازلها الزرقاء، يمكن أن تتسرَّب تموجات الدخان الأبيض الذي يبعث على التفاؤل والارتياح، كما يمكن لهذه الغابات أن تتحمَّل مسؤولية تسرُّب الرياح الصفراء التي تبعث على التشاؤم؛ فيما لو كانت نتائج المباحثات التي تجري في هذه القرية عقيمة، أو أنها لم تكُن على قدر الآمال.

القمة التي عُقدت بين الرئيس الكوري الجنوبي مون جاي وزعيم كوريا الشمالية كيم أون في 27 أيار/مايو الحالي هي الثانية خلال أقل من شهر، وقد أنعشت هذه القمة التي استمرَّت ساعتين في «بانمونجوم» الآمال بعقد القمة بين الرئيس الأمريكي دونالد ترامب والزعيم الكوري الشمالي كيم أون، بعد أن أُعلن عن صرف النظر عنها، وإيقاف الترتيبات التي حصلت لعقد هذا الاجتماع في 12 حزيران/ يونيو 2018.
أجواء التفاؤل عكستها صورة العناق الحميم بين زعيمي الشطرين في 27/ 5/ 2018، أسفر عن اتفاق أدى إلى استئناف المباحثات بين ممثلين عن واشنطن وبيونج يانج في القرية الحدودية ذاتها، والتي يُطلق عليها اسم «قرية الهدنة» نسبة إلى توقيع اتفاق الهدنة التي أوقفت الحرب بين شطري الجزيرة في العام 1953، وما زال مفعول الهدنة قائماً حتى اليوم. وقد تضمَّن الاتفاق في حينها إقامة منطقة منزوعة السلاح بعرض كيلومترين، تنتشر فيها قوات من الأمم المتحدة.

قرار الرئيس ترامب بصرف النظر عن القمّة مع كيم أون؛ أثار موجة من التشاؤم في العالم. وتصريحاته بإمكانية إعادة النظر وبالتالي حصول الاجتماع، واستئناف الاتصالات بين الجانبين بواسطة سيؤول؛ أدى إلى إنعاش التفاؤل من جديد. ذلك أن كابوس الملف النووي الكوري الشمالي أصبح ثقيلاً على البشرية جمعاء، والتجارب الصاروخية العابرة للقارات – والتي يمكن أن تحمل رؤوساً نووية – والتي أجرتها بيونج يانج، لا يمكن الاستخفاف بتأثيراتها الاستراتيجية، ليس في الولايات المتحدة فحسب، بل في أوروبا واليابان، ومنطقة الشرق الأقصى برمتها.

من مصلحة الرئيس الكوري الجنوبي مون جاي أن يبذل كل ما يستطيع من أجل تجنيب بلاده الحرب. وهو في هذا السبيل قد يكون أقدم على خطوات تراجعية أمام نظيره الكوري الشمالي كيم أون. وقد بدأ هذا المسار المرن عند جاي منذ ترحيبه الحار بشقيقة أون بمناسبة مشاركتها مع وفد شمالي في الألعاب الأوليمبية الشتوية التي جرت في نوفمبر/تشرين الثاني 2017 في سيؤول. وأعقبها قمة بين الزعيمين في 27 إبريل/نيسان 2018، والقمة الأخيرة في 27 مايو/أيار 2018.

للولايات المتحدة حسابات تختلف عن حسابات كوريا الجنوبية، بحيث إنها تريد تلافي حرب في أقصى الشرق، كما ترغب سيؤول، ولكنها لا تستطيع أن تتحمَّل شريكاً لديه قدرات نووية هائلة، كما في حالة بيونج يانج، يضاف إلى أخصامها اللدودين في موسكو وبكين، وعندها ترى واشنطن أن التوازن الاستراتيجي يكون قد اعتراه خلل لمصلحة الدول الآسيوية الكبرى، وهذا ما لا تستطيع واشنطن وحليفتها اليابان تحمُّله على المدى البعيد، لأن الطموحات الصينية واعدة، وروسيا تتصرف براحةٍ واضحة في أكثر من مكان في العالم، من دون أن تحسب للدور الأمريكي أي حساب، خصوصاً في سوريا، والى حدٍ أقل في شرق أوكرانيا.

يتبيَّن من متابعة الحِراك الأمريكي ذات الصلة أن واشنطن ترغب في مقايضة الترسانة النووية الكورية الشمالية بتقديمات مالية واقتصادية مُغرية لها، من دون أن تفكر إدارة ترامب بالتعامل مع هذه الترسانة على أنها أمر واقع.

في المقابل؛ فإن المؤشرات التي يُعبِّر عنها الموقف الكوري الشمالي، لا تدلُّ على أن هذه الأخيرة في وارد التخلي النهائي عن سلاحها النووي، وعن مفاعلاتها المتطورة من دون مقابل. وهي تتطلَّع إلى إلغاء كل العقوبات المفروضة عليها من مجلس الأمن، ومن ثُمَّ إقامة منطقة واسعة خالية من السلاح النووي، تشمل كامل أقصى الشرق الآسيوي، بما في ذلك منع السفن والغواصات الأمريكية التي تحمل رؤوساً نووية من الإبحار في المنطقة.

المفاوضات الأمريكية – الكورية الشمالية قد تكون فرصة جدية لإنقاذ العالم من الهياج العسكري النووي في أقصى الشرق، وقد تكون محطة توتير إضافية للأجواء المتوترة بالأساس في المنطقة، ذلك فيما لو تعامل الطرفان الرئيسيان المعنيان بالمفاوضات بالمكابرة، أو بلغة التهديدات المتبادلة.

اقرأ أيضاً بقلم د. ناصر زيدان (الخليج الإماراتية)

واشنطن وبكين وبحر الصين الجنوبي

إدلب والحسابات الاستراتيجية الدولية

مصر والتوازنات الاستراتيجية الجديدة

موسكو تحصد نجاحات غير متوقعة

العدوان المتجاوز كل الحدود

سكريبال والحرب الدبلوماسية الساخنة

عن العقيدة السياسية للدول الكبرى

لماذا صواريخ «إس 400» في جزيرة القرم؟

روسيا في العام2017

الحوار الأوروبي الإفريقي والقنابل الموقوتة

استراتيجية روسية جديدة في الشرق الأوسط

استفتاء كردستان ليس حرباً عربية – كردية

أفغانستان الجريحة

مؤشرات التطرُّف المُقلِقة

توازن الرعب في أقصى الشرق

أخطر مُربع في الصراع

الموصل مدينة العذابات الكبرى!

واشنطن وبيونج يانج و«الصبر الاستراتيجي»

جُزُر الكوريل وتوترالعلاقات الروسية اليابانية

إعادة خلط الأوراق في العلاقات الدولية