عاميات عبد الحميد بعلبكي في “حديث الشيخوخة”

د. قصي الحسين

وصف المفكر النهضوي بلداسار كاستليوني المثقف المثالي الكامل في عصره محدداً مواصفاته وسلوكه وأثره في المجتمع. ووصفه هذا يمكن في المقابل أن يمثل، تبعاً لمقاييس مشابهة، إنما معدلة بعض الشيء، ما نجده عند الفنان الراحل عبد الحميد بعلبكي (1940- 2014)، الرسام والنحات والشاعر والكاتب. ذلك المثقف الذي كان دوره في الحياة الاجتماعيّة والفنية والأكاديمية، قد راح يتضخم ويزداد أهمية في ذلك الحين.

وعشية المعرض التشكيلي لإرثه الفني الذي يتجلى في لوحاته، والذي اقيم في غاليري صالح بركات ببيروت (ديسمبر 30- نوفمبر 17/ 2017) لا بد من الاضاءة على حياة وأعمال عبد الحميد بعلبكي. فقد تخرج من معهد الفنون الجميلة في بيروت عام 1971 وأتمّ تحصيله الأكاديمي العالي في باريس، ليتفرغ بعدها للتدريس في الجامعة اللبنانية في بيروت (1974- 2004). وأقام في حياته المعارض الفردية: “غاليري وان 1983″، و”الصالة الزجاجية 1998″ و”الأونيسكو 2008″، وشارك إلى ذلك في حوالي 60 معرضاً جماعياً في لبنان والخارج. وترأس بعلبكي جمعية الفنانين اللبنانيين للرسم والنحت (1992- 1994).

و”حديث الشيخوخة” الذي صدر له (دار نوفل 2017 وهاشيت أنطوان 2017)، إنما ينضم إلى ثلاثة دواوين شعرية وكتابين نثريين، بالإضافة إلى مجموعة من الدراسات والمقالات الثقافيّة والفنية بقلمه، التي كانت تتصدر الصحف والمجلات اللبنانية والعربية وآنذاك.
وعلى غلاف “حديث الشيخوخة” موضوع مقالنا هذا، يقول ناشره: “في أقاصي الجنوب اللبناني حكايات لا يعرفها إلاّ قاطنوه، وطرائف لا يتداولها إلاّ أبناؤه، ومواقف لا يتلقفها سوى المتنبهين، أصحاب الروح المتقدة والعيون الراصدة، من الشاهدين أو المتقصين عنها”، ويتابع قائلاً: “وعبد الحميد بعلبكي، ابن جبل عامل الذي عشق تلك الأرض وعشق أهلها، هو أحد هؤلاء الشهود”. ثم يقول: “بعين الرسام الدقيقة كحد السيف، الدافئة كألوان التراب، تأمل ورصد قصص أهل قريته والجوار. وبلغته العربيّة الفذة وروحه المرحة وأسلوبه اللماح، كتب.

بين دفتي كتاب “حديث الشيخوخة”، حكايات صغيرة، أبطالها مجهولون، وسوالف تعود بنا إلى زمن يسبق زمن الخط الأزرق بين قريته عديسة ومعشوقته فلسطين. ونوادر واكبت الذهنية الفلاحية وأيام الاقطاع وإفرازات الحروب وطبقة الأثرياء الجدد وتمرد الأبناء. وقبل كل شيء وبعده الإنسان في جميع حالاته”.

حقاً يعتبر كتاب “حديث الشيخوخة” كما وصف، كنـزاً إنسانياً وهو إن كان كذلك، ليس سوى نقطة في بحر ما خلفه الفنان التشكيلي الراحل عبد الحميد بعلبكي من كتابات، تتنوع بين الشِّعر والنثر والنقد. وقد قيل عنه أكثر من ذلك، حين وصف شقيقه الفنان التشكيلي فوزي بعلبكي في مقدمته الرائعة لحديث الشيخوخة فقال: “إنه كسر لطوق البداهات”. ويتابع تحت هذا العنوان قائلاً: “الرهان على المعنى رهان على الماء في سراب الصحراء. كلما أمعن في السعي وراءه ليستدل على منابعه، يدرك أكثر طبيعته المراوغة”.
وهو يرى في أحاديث عبد الحميد أنها طرائد العقل ومقاصده، وأنها ليست إلاّ ستاراً لمعانٍ أخرى يغلفها المعنى الظاهر ويسترها مثل رأس الجليد، ما يبدو منه للعيان أقل بكثير مما هو مخفي منه” (ص 7).

خمس وأربعون حديثاً في مئة وأربعين صفحة من القطع الوسط، هو ثروة عبد الحميد بعلبكي من القصص والأحاديث الشعبية. وكلامه فيه كلام مفارق لما كتب. وتقصى اللّغة الصامتة فيه خلف الكلام النصي، يهدف حتماً إلى ضبط ما أسماه فوزي بعلبكي، “ضبط المعنى المراوغ وتظهير حقائقه المخفية. وهو يقول في مكان آخر: عبد الحميد فنان تشكيلي وشاعر. وبحكم هذه الطبيعة المزدوجة، يطمح لرؤية العالم حوله من خلال ذاته. وقد تدرج “حديث الشيخوخة” من التقليد المثير للضحك إلى الفكاهة. ومن الظرف إلى السخرية. وهو في أحاديثه كأنه في شريط نقدي يماثل الفيلم السينمائي الهزلي.

ولا شك أن الكتابة الساخرة التي تمثلت في أحاديث الشيخوخة، إنما هي مظهر من مظاهر القوة. فحين يعمد عبد الحميد الساخر، إلى حسر اللثام عن الهفوات بشكل سافر، فإنما يريد أن يجعل منها مدار تندر. إنه نوع من “فرك الأذن”. ويرى فوزي بعلبكي، أن حديث الشيخوخة متدفق اللّغة، متماسك البنيان، عفوياً، كما لو كان صاحبه يتحدث في سهرة قروية. فقد ترتبت المعاني في نفسه، فترتب الكلام. (ص 12).

كتاب “حديث الشيخوخة” لعبد الحميد بعلبكي، كما يبدو لنا، يحمل عنواناً واضحاً منذ البداية، عنواناً يحدد هدفه من دون لبس أو مواربة. إنه أحاديث أهل القرى في جبل عامل في الجنوب اللبناني، ممن بلغوا الشيخوخة وجلسوا في المجالس يتصدرونها أو يستمعون إلى الأحاديث المسلية والتي تفرج عن نفوسهم الكروب وتبلسم الجروح وتداعب النفوس، وتبعد عنهم السأم والملل والكلل.

يقول الكاتب تحت عنوان “المهر المستحيل”: “رزق الإثنان بفتاة كانت تعد في شبابها من جميلات الصبايا في عديسة، إن لم تكن أجملهن. وكانت على درجة عالية من النظافة والترتيب وحسن الخلق. وقد تقدم لطلب يدها مجموعة من الشباب، الواحد تلو الآخر. لكن الوالدة، كانت ذات طبيعة استعلائية، واجهتهم جميعاً بشرط تستحيل تلبيته. إذ كانت تقول لكل من طلبها: “ما بقبل مهرها إلاّ العدس محشي، والثلج مقلي” (ص 81).

حقاً إن عبد الحميد بعلبكي، كان يعمل وحده بقدر ما يعمل المئات من شيوخ قريته وجوارها في جمع الأحاديث القروية التي تنبت على شفاه القرويين من أهل الجنوب والبقاع. ونصه لذلك لا يضاهى، ولا يمكن لأحد أن يتجاوزه. إنه نحات كلمات ورسام ريشة ومعماري مشيد في جميع ما يكتب بالريشة وما يرسم بالقلم. يقول في تخمين غريب: “في شتاء إحدى سنوات الستينيات، هطلت الأمطار بغزارة شديدة طوال نهار وليلة حتّى ضج الناس، وخافوا أن تحصل في البلاد فيضانات مدمرة. وقد علق أحدهم (س. ب.) على الحالة يوم ذاك بقوله: يا جماعة، الأرض ماء والسماء ماء. شو انفختت السما” (ص 73).

حقاً كان بعلبكي، الناقد والساخر، قد خفف في “حديث الشيخوخة” من غلوائه وسلك دروباً أكثر موضوعية، وباح لنا بأحاديث وأخبار وطرائف وتعليقات، هي مما تحدث به غيره، لكنها جاءت على لسانه مدونات مدوية للشفاهية المحببة التي يتداولها النقاد العاميون في مجامع العاميات البهيجة.

اقرأ أيضاً بقلم د. قصي الحسين

كمال جنبلاط البيئي وإلتقاط البرهة!

مجتمع البستنة

الدكتور اسكندر بشير التجربة والرؤيا الإدارية

 ساق الحرب

جائزة إدلب

جميل ملاعب والقدس: تأبيد الرؤيويات البصرية

جسر السلام: ثوابت كمال جنبلاط الفلسطينية التاريخيّة

القتل السري عن كمال جنبلاط والقتل السياسي

حين السياسة بمفعول رجعي

ترامب والتربح من الصفقات

عن النظام يأكل أبناءه الفوعة وكفريا نموذجاً

مصطفى فروخ وطريقه إلى الفن

 الرئيس القوي

 د. حسين كنعان وأركيولوجيا القيافة والثقافة والسياسة

 ضياء تلك الأيام

 عن كمال جنبلاط والفرح بالعمل

 تتجير السلطة

تيمور جنبلاط بصحبة والده في السعودية زيارة تاريخية إحيائية

 كوفية تيمور ومليونية القدس وجه آخر للاضطهاد والإحتلال

تجديد “نسب الخيل لابن الكلبي” ونسخ لمخطوطاته التراثية الثلاث