شفق المختارة

د. قصي الحسين

شفق المختارة يصحو هذا العام في الأوّل من أيار وجهاً لتيمور، عندما يتوغل أحد مثلي، عميقاً في ثلاثة تواريخ: السادس من كانون الأوّل والسادس عشر من آذار والأول من أيار، يملأ البياض. تشخص كل كلمة بحدّ ذاتها هامة من جديد. اكتشافاً في ثرى المختارة. ماذا يقول منقب الآثار في معمورة المختارة، عن وجه يشقها بالضوء شظية صوان. مصغياً إلى الحلم، عام ألف وتسعماية وتسع وأربعين، يوم وقف المؤسس كمال جنبلاط يعلن ولادة الحزب التقدمي الاشتراكي، في الأوّل من أيار. أحد أيام الشهادتين: العلم والعمل. وفي اليوم السادس يهديها للشهداء.

ظليلاً كشمس. وأبيض كثلج يحف بالجدول. يحكي تفاصيل واضحة، يصنع وجهه الإصرار والثبات والصمود، في كل مكان وتحت القباب والزوايا المقوسة. وعلى الدرج الذي يسرد وقع خطى، مقاطع من اسطورة ملؤها الريح، فيخطر في البال الاسم بصفاء منطق الحلم كسلطان خارج، موشح بأسطورة تولد في الحلم ثانية، وعليها أثر الأزاميل والأزمنة، تضج في الحشود حقل الطاقة. وبين يديها لواء النصر وفضة ملؤها زاد السنين.

لو كان بوسعي أن أصف شاباً كتيمور لاخترت شفق المختارة، يهيئ غرساً من علم وعمل يملأ حواس الأجيال. يرفع رأسه حيث لا نجمة، ويقف بقدميه حيث لا نقطة وسط، وقد حبته يقظة الحجر في المختارة رقة وسيبقى مثقلاً بها أظنه وحدي.

أخبرتني روحي بأنني سوف أثور ضدهم، ولو علق رأسي بعدها، على رمح فوق باب المدينة. ففكري معك أبداً. فأنت زعيم وطني وعروبي وتقدمي لكل لبنان ساحلاً وجبلاً وداخلاً، لا لأحد الثغور كما يتوهمون، ولا لطائفة كما يفحون وينفثون.

لم أر نوراً أكثر قوة من وجهك في شفق لمختارة. ولم يكن أصلاً غيرك داخل قلبي. وما تبقى من نور العنين، يحرق الصديد. فبصري اليوم حديد. والسادس من ايار، يوم مشهود في شفق المختارة. وأسراب الطيور، تستيقظ باكراً لتسمع لنا درسها تغريدها. وأنا أستمع بعيني: أمس، المكان، الآن، ما كنت يوماً قد رأيته. شفق المختارة، نقش وجهك، محفوراً في الجلول والصخور والغصون، يجعل الدروب إلى دارك ترتدي الألبسة الزاهية، فتغلب العيون، كما لو أنها لم تعرف ذلك. هذه دروب تيمور، إلى المرتفعات في بلادي، إلى دار المختارة، إلى النجمة المرصعة الّتي تحرس الينبوع، حيث يود الأهل أن يسمعوا جداول الجبال وغدرانها وهي تنصت، حين أنظر إليها لأستطيع سماعها.

وهذه اللطخ على القميص الذي سجي في دار المختارة، والتي لا يمكن غسلها بالماء، غير قابلة للمحو، لأنها كالدم ذوب شقائق النعمان. تقرأ فيها الأجيال تعباً من عماء، بعيداً في الفضاء، لم يعثر أحد على عظمته الخالدة، سوى الحدآت في سماء المختارة. هكذا كان المكان مختاراً. هكذا كان القصر دار المختارة.

وجه الشفق في الدار، في الخريف أم في الربيع، في اليفاعة، أم في الكبر، يشف في تيمور كلياً. والآن، منذ برهة، منذ ألف عام مضى، فهو مختف، بيد أن اختفاءه باقٍ. يتجول في الدار، يدير ظهره للشمس. وجديد كفيه يفضي في محياه شفقاً. هكذا هو عبور الحدود. مطر شمس، همت على المختارة ذات درب، فتموجت المحاصيل، أنهاراً براقة من ضوء. وخبأت تحت نورها مدائن غابرة، تتصاعد بأدخنتها نحو ما هو مخفي في هواء النهايات في الشفق، نحو مستقبل في وجه ندي، أعني وجه تيمور. لينشر بعدها على المروج لألف عام ضائعة.

 

كل شيء ناءٍ، تراباً كان أم ماءً، أرضاً كان أم سماء، كذلك شفق المختارة الذي تهواه أفئدة الجموع المحتشدة في الدروب. إنها أرض، وطن، أرض نائية، وطن ناءٍ في صومعة. بقنديلها المشحم والمجمرة، مصعدة ذات مكان، عالياً في الجبال، لأجل الذي لا زال في المعبر لحماً ساخناً.

كأن الجمر يندلق من صدره والعينين، غير مرئي، على حافة الكتاب، محلقاً لبرهة، ليتدلى بين شجيرات الورد، على الوجه النقي المسجى. والفرسان خرجوا، بعزلة الوادي المليء بالغابة، حيث أغرتهم النسور. لكن البومة تحملق في الأحراج. وفي الشفق لم نبصر سوى الغيوم في سماء المختارة المضاءة، بوجه تيمور. والوقت الأمثل لعينين واهنتين، إذ يظهر منهما المكان وما كان، حين تلتقط الضوء من ذاكرة الجمر، إلى الحياة، رغبة عيش لجيل مجدد للنور والنصر في السابع من أيار.

في شفق المختارة، ليس للجدران سر تخفيه. هنا لا شيء إلاّ يرى. والأصداء تهطل كالمطر الغزير. والينابيع كلها تفيض. وليس ثمة عطش غير مرتوٍ، يقف أمامها الزائر واهناً. وفي ظلال جدران دار المختارة، كل شيء مخفف التركيز. فكيف تقرأ وصية القلب الذي تخلف فيها. تلك الحبيبات المذابة كالذهب، تمر عبر الفؤاد كندف الثلج، تخبو وتتوهج على ماء الرؤيا، كبحر رمى في الموج ألف قصيدة، وانتحى يدندن مناغاة لنغمة مبتورة على الصخر الصقيل.

في شفق المختارة تقرأ انعكاساً في وجه تيمور أن الناس كثر والبحر وحيد. وأن الجدران من ملمس جلد حجري معجز، لن يلتحم في كماله أبداً، إلاّ من الداخل، في ثرى الدار هذه هي باختصار حكاية شفق المختارة.

* أستاذ في الجامعة اللبنانية

اقرأ أيضاً بقلم د. قصي الحسين

كمال جنبلاط البيئي وإلتقاط البرهة!

مجتمع البستنة

الدكتور اسكندر بشير التجربة والرؤيا الإدارية

 ساق الحرب

جائزة إدلب

جميل ملاعب والقدس: تأبيد الرؤيويات البصرية

جسر السلام: ثوابت كمال جنبلاط الفلسطينية التاريخيّة

القتل السري عن كمال جنبلاط والقتل السياسي

حين السياسة بمفعول رجعي

ترامب والتربح من الصفقات

عن النظام يأكل أبناءه الفوعة وكفريا نموذجاً

مصطفى فروخ وطريقه إلى الفن

 الرئيس القوي

 د. حسين كنعان وأركيولوجيا القيافة والثقافة والسياسة

 ضياء تلك الأيام

 عن كمال جنبلاط والفرح بالعمل

 تتجير السلطة

تيمور جنبلاط بصحبة والده في السعودية زيارة تاريخية إحيائية

 كوفية تيمور ومليونية القدس وجه آخر للاضطهاد والإحتلال

تجديد “نسب الخيل لابن الكلبي” ونسخ لمخطوطاته التراثية الثلاث