دمعة وذكرى / بقلم د. عارف ضاهر

استميحك عذرا يا ابا معن، عمي ورفيقي ومثالي ضاهر ريشا، ان اذرف دمعة حبستها كما الرجال حين يرتفعون فوق الألم والأسى ويعضون على الجرح، لكنها حطمت كبريائي وسالت على وجنتي لتقول لي وتذكرني، انني فقدت اباً ورفيقاً ومثالاً ورمزاً وسنداً، واصبحت يتيماً من كل هؤلاء وخسارتي لا تعوّض.

علمتني الحرف في صغري، وكنت منك اتعلم ليس فقط الحرف بل كل الكلمات والعبارات، نشأت انهل بنهم من فكرك واحفظ ادق التفاصيل وكل جدليات النقاش والنقد والرفض والنضال والثورة، وفي ريعان شبابي حملت مشعلكم مع الكبير الآخر حنا يعقوب حنا، وابتدأت من مقاعد دراستي في مدارس الاخوة المريميين الى مدارس منطقتنا، وكنت مع بعض الشباب نأخذ من اسلوبكم في تحطيم جدار الفكر الانعزالي والطائفي نهجاً فكريا ونضاليا في المدارس والثانويات، نواجه، نتحدى ننشىء التحالفات وبالأخص مع اليساريين الآخرين وبعض الأحيان مع شباب الكتلة الوطنية، وكنا في اغلب الاحيان ننتصر.

لقد خلقتم حالة تقدمية ثورية تتمحور حول كمال جنبلاط والحركة الوطنية اللبنانية وكنا كشباب يتأثر بنهجكم وفكركم نواكبكم في كل المحطات، ونخلق حالة مشابهة في الوسط الطلابي والشباب، فأصبحنا بوزن يغيّر ويقلب المعادلات، وهذا ادى بنا الى ان ندفع الثمن غاليا في الحرب اللبنانية، فما كان لدى اخصامنا لمواجهتنا الا بالسلاح فهُجرّنا. هذا هو التاريخ وهذه هي الحقيقة المرة، وتخطيناها في تسوية وطنية وضع اسسها الرئيس وليد جنبلاط ونيافة بطرك لبنان الكبير صفير.

 

و يوما قال لي حنا يعقوب ما تفعله يا متحمس جيد ولكن يبقى ناقصاً إن لم يكن مرتبطا بالتزام حزبي، ودعاني الى التفكير بالانتساب، اما انت لم تكن تريدني ان اتسرع في الانخراط في العمل الحزبي، كونك كنت تدرك صعوبة هذا العمل، وكنت تريدني ان احصّل علمي اولاً، كوني من عائلة لا مجال لها إلاّ التحصيل العلمي. وهكذا كان، تتلمذت على يديكم وانتسبت الى المدرسة الحزبية بإشراف الرفيق الدكتور خليل احمد خليل، وفي 4 نيسان 1971 كنت ارفع يميني واقسم بشرفي امام المعلم القائد كمال جنبلاط.

 

أأرثيك دمعاً وانت كنت اكبر من المحن والمصائب وحملت كل الجراح منتصبا لم تحني رأسك مرة واحدة وبقيت هكذا حتى اخر رمق في حياتك. فانت وعلى فراش رحيلك كنت تحرك مشاعر وعقول الناس واخصامك كانو يهابونك، لذلك كُثر هم من فرحوا برحيلك، لذلك انا لن ابكيك لأن في ذلك طعم الهزيمة التي لم تنل منك ولا مرة واحدة، وستعطي اخصامك ذريعة اضافية للفرح.

كانوا يرون فيك ملحدا لأنك كنت لا تؤمن برب صنعه البشر، بل بإله فوق قدرة وتفكير البشر، كنت تؤمن بكنيسة هي بيت الله والصلاة لا بيت للكهنة والاستعراض الوثني، كنت تؤمن بالدين محبة وتسامحاً ونقاوة للقلب والضمير، لا بدين يشرّع القتل والظلم ويرفع الشعائر فوق الحراب. السماء عندك هي مسكن العقل والفكر والروح وليست جوائز ترضية توزع حصصاً على الارض وكأن هناك توكيل بملكيتها هنا وهناك.

 

حين رحلت الى رحاب ربك كان التاريخ يسجي  في نعشك، وكنت انت ترفع على الأكف والاكتاف، التاريخ بعدك تغير وسيتغير حتماً، فانت آخر العمالقة في هذا الزمن، تعودنا عليك الحدث وتغير المقاييس وقواعد اللعبة من التكتيك الى الجذرية، فكنت جذرياً في رأيك وفي فكرك وفي قرارك، مشيت بالتسويات لأن فكرك الحزبي يؤمن بالتسوية من أجل المصلحة الوطنية، ولكنك لم تقبل مرة واحدة بالمساومة، ومشيت انا في ركابك على هذا النهج الذي اثبت انه الأصح في مرحلة الصراع بين تكتلات طائفية متحالفة مع الرأسمال الوطني والخارجي.

رحيلك يا أبا معن لا يعوّض ولن يعوّض، وارثك الكبير سيكون منارة للبعض وعبئا على البعض الآخر، عن قناعة والتزام سأحاول اذا استطعت حماية هذا الإرث والحفاظ عليه حتى آخر رمق في حياتي، رافعا رأسي الى ان ارحل كما رحلت انت بالهوية والعزّة والكرامة .

 

لست انا الوحيد من يفتقدك، بل كل رفاقك اينما كانوا، وكل اليساريين اينما كانوا، وكل رجال الفكر والأدب. وبصماتك ستبقى الى امد بعيد في طول البلاد وعرضها.

 

في الاول من أيار وفي ذكرى تأسيس الحزب التقدمي الاشتراكي، حزب النخبة الشعبية القيادية والمدرسة الفكرية الرائدة في خدمة الحقيقة والتطور وفي خدمة الانسان الحر والواعي، لا نشك للحظة واحدة ان هذا الحزب يملك القدرة والرغبة المستمرة بتجديد نفسه من خلال قيادات نخبوية جديدة على خطى الكبار الذين رحلوا.

 

تحية للحزب قيادة واعضاء في ذكرى تأسيسه وكل التمنيات القلبية للرئيس، رحم الله الشهداء وكل الكبار الذين رحلوا بعد ان أناروا دروب الحزب النضالية ورسخوا جذوره في ارض صلبة، ورفعوا رايته الى السماء خفاقة.

 

رحمك الله يا عمي ابو معن، ستبقى في قلبي حياً ودمعتي اقوى من أن احبسها.