تبني الديمقراطية

د. قصي الحسين

هل تقيض الحياة للديمقراطية فترى النور في الانتخابات النيابية اللبنانية القادمة؟ جواب السؤال هذا شائك. وليس في مقدورنا النفي و التأكيد. فهذه الانتخابات حصراً، قد لا تنجو. وإلى اليوم يقال إن الأمور على ما يرام. مثلما قد يقول رجل رمى بنفسه من من على سطح صخرة الروشة، قبل ارتطامه بالأرض.

وقسم كبير من اللبنانيين المندفعين في العمليّة الانتخابية والمؤسس والمروج والمدافع عن قانونها بالحاصل الانتخابي أو بالصوت التفضيلي الدفين فيه، إنما يقول بأنها بألف خير، بعد مرور عام ونيف على انتخاب الجنرال ميشال عون رئيساً للجمهورية. وهؤلاء بلا شك من مؤيدي فخامة الرئيس ميشال عون. ويجاري فريق رئيس الجمهورية ووزير الخارجية جبران باسيل، قسم آخر من اللبنانيين الذين ما بدلوا عن الرئيس عون تبديلا. فهم يضيفون إلى ذلك، أن لبنان نجا من كارثة، ومن الأسوأ. ويذكرون بأن اللبنانيين ظلوا ينتظرون بلا رئيس لبلادهم لأكثر من عامين ونصف العام تقريباً. وها هي الموازنة تقر في المجلس النيابي لأول مرة منذ أكثر من عقد من الزمن. وها هي عجلة الاقتصاد تدور . والعجز ينخفض وسعر صرف الليرة اللبنانية ومعها البورصة في أحسن الأحوال. ناهيك عن نجاح مؤتمر سيدر في باريس وحاصله المالي أحد عشر مليار دولار ونيف.

وقد طلعت حملة فجر الجرود على لبنان بالخير العميم وتوالت التنظيمات الارهابية على الخروج من سلسلة جبال لبنان الشرقية، تجر أذيال الخيبة. وأطفئت جمار الفتنة في المدن في لبنان من أقصاه إلى أقصاه. ولم تندلع أية حرب على الرغم من التهويلات الاقليمية بها، ولا حتّى حرب الحقول النفطية المكتشفة حديثاً على الساحل اللبناني، على الرغم من الإخطارات بها اقليمياً ولبنانياً ودولياً.

ويبدو أن الديمقراطية اللبنانية تقاوم، وهي صاحبة أعرق دستور في المنطقة العربيّة وفي الاقليم. والانتخابات النيابية اليوم على المحك. وأعين اللبنانيين والعرب والعالم تراقبها، مراقبة حادة وجادة عن كثب، والرأي العام اللبناني والعالمي يحاسب حتماً. وفي السادس من أيار القادم 2018، يطوي اللبنانيون صفحة السابع من أيار 2007، ليفتحوا الصناديق للديمقراطية.

والمرحلة الأولى التي شهدتها الديمقراطية اللبنانية، في مطلع القرن العشرين وفي فجر الاستقلال، هي “مرحلة التبني”، حيث تنادى اللبنانيون لإعلان الرغبة في تبني الديمقراطية الغربية، كتعبير عن انسداد الأفق السياسي السائد قبلها، وسعياً إلى الخروج من مرحلة التخلف. فجعلت من الديمقراطية الغربية علامة من علامات هذا الخروج. وحلّت منذ منتصف القرن الماضي مع مطلع عصر الاستقلال، محل الديمقراطية التقليدية الأهلية، ذات الطابع الطائفي والعشائري والقبلي، في إطار منظور واحد، وهو منظور تعويض التخلف الذي كان يبدو قائماً في هذا الميدان.

ومثل الحل الديمقراطي بطابعه الغربي، “قطيعة” كما يتمنى اللبنانيون مع الديمقراطية التقليدية الأهلية بطابعها المحلي. وهذا يعني بشكل مباشر اختلافاً جوهرياً للشكل والمفاهيم بين الديمقراطية المحلية والديمقراطية الغربية الحديثة الوافدة.

وهذا ما يصبغ الديمقراطية الجارية اليوم في لبنان كما يشاع لها، بـ”الإنبتات” عن الديمقراطية الطوائفية والعشائرية والقبلية. وتحاول القطيعة معها؛ أن تدفع إلى تأويلها في باب الإيجاب، أكثر من باب السلب، كأنها فعلاً قسمة بين زمنين، لا يداخلهما فكر التواصل والاستمرار بشكل أو بآخر.

والديمقراطية الغربية، أقله رديفة للحداثة، والديمقراطية الأهلية المحلية، توازي حتماً التخلف عن العصر وعن الحداثة الناشئة فيه أيضاً. وهذه الاستنتاجات يولدها اليوم في أذهان اللبنانيين الخطاب المبطن للقيادات اللبنانية وللقادة اللبنانيين الذين يتقاسمون الوطن، بالديمقراطية الأهلية المحلية. فهم يستحلون كل الخطابات الطائفية والعشائرية والتحريضية، وهم يقفون أمام صناديق الديمقراطية الحديثة بمفهومها الغربي، عبر المفهوم المحلي اللبناني الأهلي.

ويواجه اللبنانيون لذلك معضلات كثيرة. فقد تبنوا شكلاً ديمقراطياً مرتهناً بتطور التقنية الغربية. وهذا ما يفيد بقاءه في حدود التبعية الأهلية المحلية، دون وعي بخطورة المفاهيم. بل يمكننا أن نصف القيادات اللبنانية بأنها جاهلة بالمفاهيم، وهو ما يجعل العمليّة الديمقراطية التي تحضر لها صناديق الاقتراع للانتخابات النيابية في السادس من ايار 2018، مفتقرة إلى مفهوم الديمقراطية اللبنانية الحديثة، التي تنظم المجتمعات الغربية والتي نتباهى بالحديث عنها والترويج لها والاحتفاء بها.

ولا يبدو لنا أن القطيعة جذرية بين مفهوم انتاجية السلطة قبل الاستقلال وبعده. فالقطيعة تتأكد باستبدال لغة بلغة أخرى. وبتغير الإطار الفكري. وهذا لا نجده في الخطابات المسموعة من القيادات المحلية. على الرغم من أننا نقر في الآن نفسه بأن اللبنانيين تبنوا الديمقراطية الحديثة. ولكن سرعان ما يدركون لاحقاً أنهم يعيشون قلقاً ومنعطفات، فيصطدمون بالديمقراطية الحديثة، اصطدام العربة الحديثة بالطريق الوعرة. مما يجعل طريق اللعبة الديمقراطية يبدو مستراباً، وهذا ما يؤدي إلى التفكير في تأهيل الديمقراطية الحديثة، بالمجتمع الطائفي والعشائري والقبلي.

إن تبني الديمقراطية في المجتمع اللبناني اليوم، يحوجنا جميعاً، لاعبين ومراقبين وناقدين، أن نؤسس للقطيعة مع الديمقراطية الأهلية المتوارثة حتّى اليوم بأشكال مختلفة، ونعمل في الآن ذاته على تبني الديمقراطية الحديثة بثقافتها العالمة لتصورات الوطن الحديث والمجتمع الحديث والمؤسسات الحديثة. إنها القطيعة التاريخيّة الصائبة التي أمدت لبنان ببضعة إفهومات للحداثة السياسية وببضع إفهومات أيضاً للتجربة الاجتماعيّة التحررية. وبهذا الفصل بين إحداثيات الديمقراطية بثقافتها العالمة وإحداثيات الديمقراطية الشعبية الأهلية التقليدية الركيكة، يمكن لنا أن نواصل الالتزام ببناء وطن ومجتمع لبناني حديث، بغير شاقل عصبوي طائفي عشائري بغيض.

ويشير استبيان نظمته شركة المعلومات المهنية “infopro.” بالتعاون مع جريدة “النهار” إلى أن الأحزاب والتيارات السياسية أكثر جاذبية في نظر الناخبين من الأفراد ولكن ذلك يصطدم مع الخطاب الطائفي والعصبوي والعشائري لقادة الأحزاب. بدل الإعلان عن ضرورة الإصلاح الإداري ومحاربة الفساد، الذي يطالب به الغربيون، ومانحو سيدر. فهل هناك من بين القادة من ينتبه إلى ذلك فيؤسس حقيقة لمشروع “تبني الديمقراطية” ، ومعالجة عداد الدين وعداد الكهرباء وعداد الفساد الإداري والتنموي وعداد الوظيفة العامة في الدولة وهدر المال العام في القطاعات المختلفة وخصوصاً القطاع الصحي والتربوي والجامعي والبيئي أيضاً. لما لا؟؟

 

* أستاذ في الجامعة اللبنانية

اقرأ أيضاً بقلم د. قصي الحسين

كمال جنبلاط البيئي وإلتقاط البرهة!

مجتمع البستنة

الدكتور اسكندر بشير التجربة والرؤيا الإدارية

 ساق الحرب

جائزة إدلب

جميل ملاعب والقدس: تأبيد الرؤيويات البصرية

جسر السلام: ثوابت كمال جنبلاط الفلسطينية التاريخيّة

القتل السري عن كمال جنبلاط والقتل السياسي

حين السياسة بمفعول رجعي

ترامب والتربح من الصفقات

عن النظام يأكل أبناءه الفوعة وكفريا نموذجاً

مصطفى فروخ وطريقه إلى الفن

 الرئيس القوي

 د. حسين كنعان وأركيولوجيا القيافة والثقافة والسياسة

 ضياء تلك الأيام

 عن كمال جنبلاط والفرح بالعمل

 تتجير السلطة

تيمور جنبلاط بصحبة والده في السعودية زيارة تاريخية إحيائية

 كوفية تيمور ومليونية القدس وجه آخر للاضطهاد والإحتلال

تجديد “نسب الخيل لابن الكلبي” ونسخ لمخطوطاته التراثية الثلاث