المناصب راحلة… أما المبدعون فباقون في ذاكرة شعوبهم

محمود الاحمدية

عندما أنعم المارد العربي الأسمر جمال عبد الناصر بقلادة النيل على الكاتب الكبير توفيق الحكيم، هذه القلادة لا ينعم بها إلا على الملوك ورؤساء الجمهوريات… قيل لتوفيق الحكيم إن الرئيس عبد الناصر يريد أن يقلده القلادة في احتفال علني، ففاجأ الكاتب المصري الجميع بأنه يريد أن يتم ذلك في لقاء خاص، ليس فيه متفرجون ولا مصورون، فطبيعة الكاتب أنه لا يحب الظهور في اجتماعات كبيرة وحفلات رسميّة…

ولكن الرئيس عبد الناصر أرادها جماهيرية ومناسبة عامة، وارتدى توفيق الحكيم أحسن بدلة عنده ووقف أمام المرآة ينظر إلى نفسه وإلى صورته في بذلة مقابلة كبار القوم…

وبمفاجأة أكبر قالت له زوجته: إياك أن تنحني وأنت تصافح رئيس الجمهورية قال توفيق في دهشة: لماذا لا أنحني؟ إنني أنحني وأنا أصافح أي مخلوق…

قالت له زوجته: إنك عندي تساوي رئيس الجمهورية… ورفضت زوجة توفيق الحكيم أن ينحني الأدب للسياسة!

وذهب توفيق إلى الحفلة ولم يحنِ رأسه وظهر فيلم سينمائي وقد وقف توفيق الحكيم رافعاً قامته وهو يتسلم قلادة النيل منتصب القامة كأنه ملك يتحدث إلى ملك…

قصة معبّرة حدثت في أكبر دولة عربية ومن المعروف أن توفيق الحكيم لم يتمنّ يوماً أن يكون وزيراً كان يرى أن مكانة الكاتب والشاعر والموهبة الخلاقة في أي بلد متحضر هي أكبر من مكانة الوزير وكان هذا نفس شعور عباس محمود العقاد أيضاً ومشهور عنه قوله المأثور لأحد الذين سألوه أن محمد محمود باشا اختار الدكتور محمد حسنين هيكل وزيراً للمعارف ولم يفكر في اختيارك أنت؟ ضحك العقاد وقال: هو يعلم أنني لو قبلت سينزل العقاد درجتين من كاتب إلى وزير معارف! هذا ليس غروراً ولكنه حقيقي…

منذ سنتين قامت مجلة لوبوان الفرنسية باستثناء معبّر إلى أقصى الدرجات وهذا موثق وذلك بطلب من الشعب الفرنسي أن يجيب على السؤال التالي: أنت كفرنسي مَنْ هي الشخصية التي مرّت بتاريخ فرنسا والتي تجسّد بالنسبة لك مجد فرنسا؟ وكانت النتيجة التي لم تفاجئ أحد: الشاعر لامارتين: 55%، الجنرال ديغول 22%، ونابوليون بونابارت: 11%.

هذا في البلاد المتحضرة… أما في لبنان أين هي هذه الهامة المرفوعة والرأس المرفوع والأخلاق السامية؟؟ وفي هذه العجالة من الهجمة الغير مسبوقة على الترشح للنيابة وخاصة عندما ندقق في تفاصيل هذا القانون المسخ الذي يشجع على خيانة كل مرشح حتى بحق زميله في اللائحة كرمى للصوت التفضيلي عدا عن انتخاب اللائحة كما هي وممنوع عليك التشطيب والطامة الكبرى أن الوجه البشع للقانون الأرثوذكسي أطل من جديد وبشكل وقح وغير مقبول عندما يخيروك باختيار الصوت التفضيلي من اللائحة التي اخترتها وهنا يقع المواطن، وفي ظل هذا النظام المذهبي المقيت، ضحية لجنوحه الطائفي باختيار ابن طائفته!!

واسمحوا لي أن نبتعد عن منطق المثالية وقلائل من الذين سوف يلعبون دورهم الوطني المافوق المذهبي ويختارون غير ابن طائفتهم… نعم قانون أرثوذكسي بامتياز… ممنوع عليك التشطيب… والأنكى إذا أعجبك مرشحٌ ترى فيه كل الصفات التي تتمناها وتضع اسمه خارج عن نطاق اللائحة التي اخترتها، يلغى هذا التصويت تلقائياً وتبقى اللائحة… وممنوع عليك التشطيب وهذا نحرٌ للديموقراطية ويا محلى القانون الأكثري…

نعم لقد شردت قليلاً عن العنوان الأساسي لمقالتي، حتى أؤكد ما اقتنع به أن الجميع راحلون وخاصة في ظل هكذا قوانين أما الباقون في ذاكرة شعوبهم هو المبدعون الذين تركوا بصمة تاريخية في أوطانهم سواء كانوا كتاباً كباراً أو فنانين كباراً أو مفكرين كباراً…
كلمة أخيرة على كل مرشح مراجعة ما كتبه كمال جنبلاط في أول خطاب ألقاه في مجلس النواب بتاريخ 21 آذار 1947 بعنوان “رسالتي كنائب” حتى نتلمس المسافة الكونية التي تبعدنا عن حقيقة مهمة النائب الحالي ولنا عودة ولن أزيد!!…

*رئيس جمعية طبيعة بلا حدود

اقرأ أيضاً بقلم محمود الاحمدية

لبنان لن يموت

أكون حيث يكون الحق ولا أبالي

لماذا هذا السقوط العربي المريع؟!

جشع بلا حدود وضمائر ميتة في بلد ينهار!

جاهلية سياسية… بل أكثر!

معرض فندق صوفر الكبير والتاريخ والذاكرة

قال لي: عندما تهاجم الفساد ابتسم بألم!!

إذا أجمع الناس على مديحك سوف أطردك!!

التاريخ لا يرحم… يجب إعادة كتابته

ما هو دوري كوزير جديد؟

مشروع كمّ الأفواه تدمير للبنان الرسالة

الجامعتان اليسوعية والأميركية تنسحبان: التعليم العالي في خطر

السويداء في عين العاصفة

تقريران رسميان متناقضان عن تلوث بحر لبنان

في ذكراها الـ 74 اسمهان: قصصٌ خالدة

طبيعة بلا حدود ربع قرن من النضال البيئي

فريد الأطرش وشوبرت والفن العالمي الخالد

يوم البيئة العالمي: التغلب على تلويث البلاستيك

قطعة الماس في جبل من الزجاج

مسيرة منتدى أصدقاء فريد الأطرش تشع في دار الأوبرا في القاهرة