نشور آذار/ د. سوسن النجَّار نصر

ويسألونك عن الروح قلِ الروحُ من أمر ربّي (الإسراء: 85)

بمعراج الروح نبدأ، وإليه نستكين، وعلى ضفاف بلوغ الحقيقة التي لا ريب فيها، نحمل آلامنا الحادية والأربعين، ونسير بها درب جلجلة يأبى الرحيل، وما بين زفرة وشهيق، وكبوة ونهوض، عفوكَ إلهي! نسألك عن ذاك الكوكب المضيء الذي بزغ في السماء الكبرى والدنيا ليلة السادس من أوَّل كانون في ذاك الزمان اللازمان، وفي مكان اختصر كلّ الأمكنة، وغيّبوه جسدًا في ليالي قلوبهم وجيف ضمائرهم الميتة، فلا طالوا البدر في اكتماله، ولا وهنت تلك الهامة الشامخة شموخ الوجود، ولكنّنا لضعف الشوق فينا، لا زلنا نحمل آلام الرحلة، فاعذرنا للألم، ولكنَّ الرجال الرجال تُفتقد في الظلمات، فكيف بالأحرى النجوم؟!

ونسأل عن الكمال الحبيب، في صفحات لا تغيب، في الريح، في البسمات، في الصوت الهادر، في الكلمات، في عيون باحثة، وقلوب مطمئنّة على العهد، طالما وعد التحقّق باقٍ، ونطلب الترياق لشوقنا وآهاتنا، والبلسم لأوجاع الفراق، وننسى أنَّ عالمك يا معلّمي، قد ضجّ بالدواء، كيف لا، وأنتَ المردّد مع الأمام عليّ: ” وتزعم أنّك جرم صغير وفيكَ انطوى العالم الأكبر”؟!

ألم تقل يا معلّمُ عن الحياة: ” ما هي إلَّا حلم دائم يطوي فيه الماضي هذه البرهة من الحاضر المتنقّل بنا دون أن تكون لنا إرادة في ذلك، أو وعي حقيقيّ إلَّا ما نعلمه في ما بعد من وجوديّة هذا الحاضرالمطوي أبدًا، كمن يسير في شبح ذاته، أو يرى شبحًا له يسير فوق الأرض”؟
وتحدّثنا يا معلّمي عن الموت، وهو المختطف لنا لا لك، لأنَّك أدركتَ ماهية الموت الحقيقيّ، وكيفيّة العبور من الموت إلى الحياة، والذي لا يتمّ إلَّا من خلال “تمزيق الأقمصة”، وتغيير وجهة الرسالة! أمَّا الفناء، فليس من الموجودات، سوى ببطلان العمل الحقيقيّ، ونكران الحقّ والحقيقة، وهو فناء يلامس الكثيرين ممّن يسيرون على الأرض أمواتًا ليتسوّلوا لحظة موت توقظهم وتحييهم.

أفلستَ يا معلمي من تقول: “سبحان من جعل الموت الحقيقيّ- أي موت النفس الفرديّة- عبرة للمستهدين، وجعل وفاة الصدّيقين في الحقّ، أي يرفع عنهم حجابه، فيرون أنفسهم على حقيقتها”؟!

أيا أيّها الصدّيق المتحقّق، تخاطبنا بالحقيقة، ونخاطبك بالأوهام وأضغاث الأحلام، تُطمئِنُ نفوسَنا إلى أنَّ الروح لا تولد ولا تموت، وتسير مرفوع الرأس، واثق الخطى، لتنغمس في فرات السعادة، سعادة العارفين، غير آبه بالبلل، غير مكترث بالغرق، فليس بعد هذا الأجاج سوى محيط الحقّ الثابت أبدًا، ومن الأزل، فلا يدمي عينًا، ولا يوجع قلبًا، ولا يؤلم في حضرة الشعشعانيّة تجرّدٌ من قميص بالٍ! فيا لوصفك لهذا الذوبان في ملح الوجود الحقّ، وأنتَ منه: “يبلغ الإنسان ذلك المسكن الهنيء الذي فيه تشعّ الأنوار- حيث لا تتجعّد للخوف قشعريرة، ولا يضمر للألم تقلّص- عندما يدرك، عندما يعرف الإنسان أنَّه كذلك”!

اعذرنا أيَّها المعلّم “العارف”، الناصع في لوتس الحياة الموحّدة بإشراقة البتلات من تراب التجرّد، السائر في مسلك التحرّر من قيود قبضة الطين، وحفنة الدنيا المتلاشية بين أصابع الأقدار التي رُسمت وخُطّت بيراع اليقين! اعذرنا! فقد تاهت بنا الدروب، وسهونا عن كنوز ونفائس كانت في تلك المحراب القدسيّ، ولا عتب إلَّا علينا، لأنَّ المعرفة لا تأتي بدون معلّم، ونحن عزفنا لحننا الفرديّ المغترّ في لحظات من غفلة نفوسنا عن حقيقة النفوس، لا النصوص، فعبدنا الهواء!ّ

ونُعمل في التجوال، ليس لأنَّه التاريخ المؤلم، المفجع للإنسانيّة جمعاء، معاذ الله! فمعك يا معلّمي حكاية أنفاس وحياة، معكَ مسلك الروح والذات في كلّ صبح ومساء، ولكنّنا اليوم اخترنا أن نرفع الصوت قليلًا، لأنَّنا نعيش الذكرى مرّة جديدة، ومنّها نتعلّم كلّ مرّة، أن لا صوت يعلو على صوت الحقّ، وأنْ لا شرًّ يمسّ النقاء، وإن أزّ الرصاص الغادر من هنا، وإن حملنا شهيدنا على نعش الحنايا من هناك، فقلبك يا معلّميّ حيّ بكلّ قلب يحمل الوفاء، والرسالة آمنة، هادئة، مؤنسة بالأيدي التي حفظتها واحترمت قيامتها المتجدّدة، فلله الحافظين لها والأوفياء!
معلّمي! يا بدر الكمال! علّمتنا أنَّ الإنسان وُجد ليتحدّى الألم والموت في طريق صيرورته، في طريق تعرّفه لحقيقة ذاته. “الإنسان وُجد ليتعدَّى الألم والموت”، وغبتَ… وحملتَ لقب الشهيد وسامًا على صدركَ المتّسع للبسيطة والأجرام، كيف لا وقد وصفتَ شهادتك بعينك المبصرة بصيرة النور في أحداق البشريّة جمعاء: “هنيئًا للذين تفتّحت نفوسهم عن ولادة الآلهة المنتظرين، قضوا أكانوا أم لا يزالون ينعمون بنور هذا الفانوس الذهبيّ الملقى في عتمة اللانهاية… هنيئًا للشهداء الأحياء، الأحياء على الدوام!”

واليوم، ونحن نتحدّى مفهوم الموت الأنانيّ، نقف عند باب معرفتك العذبة، ننتظر سفينة الموت العابرة في نهر الحياة الخالدة، ننتظر اللقاء الذي يجمع فلا يُفرّق، وننتظر الحلم الواعد بأنَّ “الحياة خليقةٌ بأن نحياها”! في هذا اليوم المفصليّ ما بين الدنيا الفانية والملكوت الخالد، نحمد الله الحقّ الذي شاء فجعلك بيننا معلّمًا وهاديًا، نشكره لأنَّه وضع نورك في حياتنا، ونرفع أيدينا في محراب الذات، لنهتف بالصوت السرمدّيّ المخلّص: أعنَّا إلهي على تخطّي العبور بفرح، لأنَّ الفرح هو مفتاح الحياة الحقيقيّة، وإن تغلّف آذار بكآبة غياب وجه، ففيكَ نشور يتحقّق بآلاف وآلاف من الوجوه التي تعكس فكر معلّمي وروحه المباركة!
في السادس عشر من آذار أستودعك الحقّ معلّمي… وإلى اللقاء!

*أستاذ جامعيّة وباحثة