في ذكرى كمال جنبلاط: عن المنارة التي هوت وسلمت شعلتها للجماهير

د. قصي الحسين

في ليل الانتداب على لبنان والشرق العربيّ، وفي غمرة الأحداث الجسام والحروب والانقسام، ولد المعلم كمال جنبلاط عروة وثقى. وفي أتون ما بين الحربين العالميتين، كانت قامته تعلو كمنارة، ترامت مداميكها من حجارة لبنان الصلبة في الجبل واتخذت طينتها من تراب الزيتون والليمون، عركته بعيون الجداول والأنهار وعبأته بالعاصي والليطاني، فنهض كمال جنبلاط في المختارة، روحاً تعم الأرض وعلماً يشهد على الأمم، وقمراً يصل بشعاعه بين الشرق والغرب.

يدان تقولان الحقيقة، وقلب لا يهدأ عن صوغ ذهب المعرفة، وإرادة لا تلين عن الصعود بين الجماهير. يضيء بشعلته الحمراء الليل الأليل، الليل الأظلم. ويقتحم المرحلة بصدره العاري إلاّ من العزيمة التي استمدها من عرين أجداده، الذين مضوا وقضوا دفاعاً عن شرف العروبة والإسلام، ودفاعاً عن شرف الجبل ولبنان.

حقاً كان كمال جنبلاط عملاقاً، رجلاه في الأرض ووجهه إلى الذرى والأعالي، ليدفع عن البلاد والعباد الآهات المحروقة بأجساد أصحابها، ويجلو للمروعين مسارب النجاة ويرد الصواعق المحمومة إلى مطافئها في تراب الجبل المسحور، وفي أوردة وشرايين الدم المنذور. يخمد فورة الجزع، ويعالج أبخرة البراكين، ويحجز الحمم عن الشعب، تناله من أكف المتآمرين، ومن غيظ الحانقين.

كان منارة حقاً. كان مئذنة. كان صومعة. كان جرساً. كان إنذاراً. كان وعداً. كان صنوبرة. وكان منارة حقاً. كبرياؤه من كبرياء التاريخ. وبطولته من بطولات أبطال الأساطير. حياته حياة الفضيلة وعظمته عظمة أمة ذاقت مرارة الصعاب وقسوة قول الحق، ومعاناة صوت الحكمة. ومع ذلك، ظل سجين نفسه الطاهرة، فلا مداهنة ولا مواربة، بل مواجهة ومجابهة ومقارعة، حتّى تلين لحكمة جنباتها وحتى تجري السابحات إلى مستقرها. كأنه مثال أعلى للناس. وكأن سيرته درساً من دروس العفة والنابهة والكرامة والوطنية والشجاعة والرجولة، على غير مقياس.

ما أصعب أن يتحدث المرء عن منارة هوت وسلمت شعلتها للجماهير. ما أصعب الحديث عن المعلم والقائد كمال جنبلاط في الذكرى السنوية لاستشهاده، التي يحتفي بها لبنان من أقصاه إلى أقصاه، هنا وفي المهاجر وفي بلاد الانتشار. تلك القامة الباسقة، كأنها صيغت من أرز الشوف والباروك. مواقف تاريخية وقفها في جميع منعطفات تاريخ لبنان والعرب والعالم، حتّى كاد لرقته في زمن النهوض القومي والأممي رجل العالم.

كمال جنبلاط حين هوى كمنارة، ارتفع نهجاً. وحين سال دمه المصبوب،سال من بدنه الشاسع المثقب بالرصاص، الحبر الرسولي، وحلقت نفسه الطاهرة غمامة بيضاء فوق رؤوس الأشهاد تندي على الجماهير بندى العقلانية وأنساغ العلم والهداية والمعرفة، حتّى غدت شعلتها فانوساً سحرياً يحمله “ديوجين” في شوارع المدينة يبحث عن الحقيقة في عز الظهيرة. كمال جنبلاط حين هوى، ارتفع نهجاً يبحث عن الحقيقة، وتبعته الجماهير.

تلك الهبة العلوية النادرة التي ما خذلت صاحبها يوماً: صفاء في الروح ورقة في الحركة ووحي صلابة وطهر أعماق، وبهاء صنع له تاجاً فوق رأسه من صباه حتّى مصرعه. شحنة مشعة من حب غامر وإخلاص دافق، وطهر نبيل، تنير البدن الراقي الرقيق، وتأخذ من ثقل الأعباء، مادة النضال اليومي في جميع الساحات: الوطنية والقومية والأممية، يتأهب لها بسلاح الكتب والشجاعة والصدق والعدل والإيمان بالمستقبل الخير الواعد.

أمضت صنوبرة العمر عند المعلم كمال جنبلاط، تحفر في الصخر مثلى المعاني، لتطوف في المغاني عالماً فرداً ينظر إلى سوامق الذرى، يروى لهفة النفس بعرق الروح ليصطفي لنفسه أجل الصفات: السعادة الحق، هي السعادة العقلية، والفرح الأعظم، هو فرحه في الانتصار على الشهوات. لأنه عابد في معبد البدن الرافل بحلل المسوح الطاهرة. روح شفافة في بدن ناحل، نحى إلى المصير الخشن من القش والفراش المهمل وسرير الخشب، ومن غنى الطعام والماء: شبع وري. وبين يديه الأخرسان: غلام أخرس، وكتاب أخرس. ومتعته التأمل والنظر، والموازنة والتحليل، وقبة فوق رأسه كأنها قبة الأرض.

وكما كان كمال جنبلاط شديد الكرم على الناس، فقد كان على العكس من ذلك بطلاً على نفسه، يرخص عنها كل هوان فتلطف وترق، وتدخر طاقةً وإشراقاً للدراية والهداية في حدو الناس وقيادتهم إلى حيز الكرامة الوطنية والقومية والأممية. يروي عقله بالمحبة. فلا ينفع علم لا ترتوي عروقه بماء المحبة، ولا تنفع خطى، تخطئ طريقها إلى القمم. هكذا كان دأبه، وهكذا كان ديدنه وهكذا كان قوله: “الحياة للأقوياء في نفوسهم لا للضعفاء”.

ولم يكن الزهد في المال والغنى في النفس، إلاّ حرب قادها على العتاة والزبانية والأبالسة، التي فلقت بطونهم كما نفوسهم جذوة الجشع إلى المال والشهوات يتزينون به، ويحرمونه عن الفقراء والمعوزين والمستورين فكانوا عنده، أقل من خفافيش مستنسرة، إذا جردوا من مالهم، زال بريقهم، أو كالقطط، قيمتها في أرسانها وفي أطواقها.

لقد جعل الزهد من كمال جنبلاط منارة زاهد ألمعي صافي الذهن، حاضر البديهة، قادراً على فك العقابيل والأقاويل، مرابطاً أميناً يحرس كرامة الإنسان في كل مكان وفي كل آن. مؤمناً برسالته وبشعلته، ليصنع للناس نصيباً من كرامة العيش والحياة.

ترفع عن الحياة لنفسه، هذا المعلم التاريخي، ليطلب الحياة لشعبه، فقصفوا منارته، وهو في عز العطاء، فأخذتها الجماهير بصدورها وسارت بها متممة مسيرته ومكملة طريقه إلى حيث العزة والكرامة والشرف والشهادة والتحرير. حتّى غدا كمال جنبلاط بموته شعباً بأكمله.

عاش المعلم كمال جنبلاط سحابة عمره مقاوماً، وحين هوى في حلكة من الزمن الرديء، هوى كمنارة، تمثلت الشجاعة في صيغتها المثلى. ولا غرو، فهو الذي كسر القيود، التي قيدته نفسه بنفسه، فخرج من أسر الهوى وخلص من علائق الدنيا، موقناً أن ما قدر له لن يبطئ عنه، وأن بدنه الشاسع قميص الوطن والأرض والشعب، يتبدل في أدوار الزمان إلى ما لا نهاية. ومن هنا، كانت شجاعته والبداية. موقف فلسفي جرى منه مجرى الروح والدم، فخرج رافضاً الحراسة، وسار إلى الخطب رجلاً في صورة أمة، متحداً في نفسه، متوحداً، اعتصاماً بتقدير الله وثقة بطاقة الروح.

حقاً، كانت من مخايل شخصية المعلم كمال جنبلاط ما يشف عن نسغ عروقها وما يفتق ساقها عن وميض جمال جاذب ونشر فواح تطيب به الآفاق. فوعيه المبكر والنادر وروح القيادة وبداهة الخاطر، لمما كانت تزخر به هذه المنارة المقصوفة الخالدة بقصفها. شخصية نازعة إلى الاستقلال دوماً، المتمردة على كل سلطة تجهض إرادة الشعب في طلب الحرية والعدالة والاستقلال، تخطب على المنابر فتهزها، كما تهز النفوس الطامحة إلى العلا، بلسان صدق وسداد رأي، تشحن العزائم بطاقات التمرد والثورة صوناً للحرية والكرامة ودفاعاً عن حقوقهم الإنسانية.

مضى المعلم كمال جنبلاط وفي يديه علوم التربية والاجتماع تغتسل فيها ذات الإنسان بطهور الخير، فيند عنها الفكر المحشو بالعقائد الفاسدة والقلب المشحون بالبغض والكراهية، حتّى غدا ثورة في الفكر الديني وأساليبه المجددة في التربية الفردية والإصلاح العام. وكان في صوته الرقيق عظمة البساطة التي لا تعبث بالعقل ولا تتلاعب بالهوى، بل تسلس حتّى تليق بشرف الحياة وطهارتها. وفي الأصل، أليست النفس صافية خالدة؟ فهو إذاً، يعيش ما عاش من قناعته هذه في غنى مقيم. غنياً في منارة عمره، سيداً على نفسه، وسيداً عظيماً يرونه الناس في سيادته على نفسه.

كان المعلم كمال جنبلاط حقاً، منارة علم وتربية واجتماع وسياسة وكياسة وعمل: نفس مصونة عن الشهوات والنـزوات وثورات الغضب. وكلمة طاهرة لا تدنسها الشتيمة ولا تخالطها النابيات الحوشيات. ونية سليمة تنفتح لها آفاق التقوى وتخللها شعاعات الأنوار، لتعانق الروح بقوة الحب والحلم والذوب في الآخرين.

وبمثل هذه الوسيلة الطاهرة، كان ينهض المعلم كل يوم إلى عمله، فقصف حين قصف في وسيلته حتّى يسقط في يده، فكان منه عدوه، عدو مبادئه التي عاش لأجلها وناضل عنها بعود المعلم، كما يقول الشاعر العربيّ:

كناطح صخرة يوماً ليوهنها،              فما وهنت وأوهى قرنه الوعل

وقصفت منارته على الطريق وفي يده الشعلة: شعلة الهداية والحرية والتربية والعلوم والثورة والعدالة الاجتماعيّة وفي نورها: حروف العروبة والإسلام والأممية الناهضة للتحرر من نير العبودية والرأسمالية والاستلحاق والتبعية. فطارت إلى الجماهير كما الهامة تصيح: أغيثوني. أغيثوني. منارة قصفت، هو المعلم كمال جنبلاط، وشعلته اليوم أكثر من أي يوم مضى، تصيح في الجماهير: أغيثوني. أغيثوني.

* أستاذ في الجامعة اللبنانية

اقرأ أيضاً بقلم د. قصي الحسين

كمال جنبلاط البيئي وإلتقاط البرهة!

مجتمع البستنة

الدكتور اسكندر بشير التجربة والرؤيا الإدارية

 ساق الحرب

جائزة إدلب

جميل ملاعب والقدس: تأبيد الرؤيويات البصرية

جسر السلام: ثوابت كمال جنبلاط الفلسطينية التاريخيّة

القتل السري عن كمال جنبلاط والقتل السياسي

حين السياسة بمفعول رجعي

ترامب والتربح من الصفقات

عن النظام يأكل أبناءه الفوعة وكفريا نموذجاً

مصطفى فروخ وطريقه إلى الفن

 الرئيس القوي

 د. حسين كنعان وأركيولوجيا القيافة والثقافة والسياسة

 ضياء تلك الأيام

 عن كمال جنبلاط والفرح بالعمل

 تتجير السلطة

تيمور جنبلاط بصحبة والده في السعودية زيارة تاريخية إحيائية

 كوفية تيمور ومليونية القدس وجه آخر للاضطهاد والإحتلال

تجديد “نسب الخيل لابن الكلبي” ونسخ لمخطوطاته التراثية الثلاث