عصام أبو زكي… الرجل الأسطورة… بطل من بلادي

محمود الأحمدية

“الأبطال الذين خَلَقوا من الرماد والحطام مَجْدَ أُمّة،

إنما خلقوا من طينة البشر… ولكن كانت فيهم كرامة”

(سبيروس ميلاس)

 

نسرٌ من نسور الوطن رحل إلى الأفق البعيد، إلى عوالم أخرى، تاركاً الدمع في العيون والذي يبقى متحجراً في المآقي حتى يبقى الرجال رجالاً… العميد المرحوم عصام أبو زكي ذلك البطل الذي قام بأدوار وطنية ستبقى في ذاكرة الأجيال والتي تعطي دروساً في المناقبية والشجاعة والإقدام والنظافة… لعب دوراً بارزاً على كل الأصعدة في مسيرته النضالية وكل مَنْ عرفه عرف فيه المزايا الطيبة ومجابهة الشرّ مهما كانت صور تجسيداته وعرف فيه وقبل كل شيء العقل الموزون الرصين المتدبّر السابر أغوار الأمور وأخذ الحلول والمواقف المناسبة حتى أصبح مصدر هداية واعتدال وحاضناً رائعاً للفكر التقدمي وفي نفس الوقت المحافظ على تقاليد عشيرته المعروفية الضاربة في جذور التاريخ وجذور تأسيس هذا الوطن الذي نقف على أرضه…

تعرفت على المرحوم العميد عصام أبو زكي عن طريق صديق العمر المرحوم العميد أحمد أبو زكي وكانت لحظات لن أنساها مدى العمر أقولها بكل ضمير حي…

وكم كانت دهشتي وإعجابي كبيرين عندما قرأت كتابه الوثائقي الرائع: “محطات من ذاكرة وطن” “مذكرات العميد عصام أبو زكي”… والحقيقة المجردة وبكل إنصاف وبعيداً عن العاطفة وبعقل بارد أقول إن العميد عصام كان أمام تجربة فَذَّةٍ متنوعة لدرجة أنه إذا أراد الحديث عن كل مفاصلها وتفاصيلها لما كفاه ثلاثة مجلدات فكان دقيقاً في اختيار الأحداث الأكثر بروزاً في مسيرته ومسيرة الوطن… ومن خلال مركزه كقائد سابق للشرطة القضائية في لبنان من عام 1984 حتى 1993 كان يملك أسراراً خطيرة عرضته لعدة محاولات اغتيال أولها عام 1970 وانتقاماً من وزير الداخلية آنذاك المعلم كمال جنبلاط، قام المكتب الثاني بهجوم على العميد أبو زكي في بناية السوديكو…

وللتاريخ أقول وهذا ليس باختراع للمياه الساخنة والكل يعرفون ذلك أن علاقة المرحوم العميد بدار المختارة كانت عميقة يصبغها الوفاء والتقدير والمودة لدار شكلت عنصر وحدة للوطن على مستوى كل حقباته ومفاصله بالبُعد اللبناني، ومن خلال كمال جنبلاط ومن بعده وليد جنبلاط على الصعيد العروبي أيضاً…

مذكرات المرحوم العميد تجربة فذّة في حالة لبنان السياسية وإفرازاتها على مدى حقبة طويلة من الزمن وكانت الأزمات تولّد قيادات ونماذجاً متكررة مهما تبدّلت الأسماء والمسؤوليات والمراكز… وأول ما اصطدم كان في المدرسة الحربية عام 1961 مع قائد المدرسة الحربية آنذاك العميد نوفل حول عقيدة الجيش اللبناني القتالية وأن عدوّنا الأول هو إسرائيل وليس كما جاء في تدريس فرضية القتال بأن العدو قادم من الشمال (ص51-52).

وكانت الفرصة الذهبية والتي أبدى فيها العميد تفوّقه وإبداعه الوطني عندما قاد إمرة الفرقة 16 التي جسدت نموذجاً رائعاً في حفظ النظام وفرض هيبته وفي الحسم في شتى الاتجاهات ومهما علا كعب المقصودين ومهما علا شأنهم ومن الحوادث التي يذكرها العميد هو اصطدامه الذي يترك الأسى في نفس كل من يقرأ كتابه مع رئيس أركان الجيش الزعيم يوسف شميط عندما منع ابنة زوجته من السير عكس السير فهدده رئيس الأركان بعدم الوصول حياً إلى منزله لو لم يكن ابن الضابط أنيس أبو زكي (ص62)…

ومن مآثره اصطدامه برئيس المكتب الثاني العقيد غابي لحود عندما أشهر أحد المطلوبين للعدالة مسدسه بوجه رئيس اللجنة الأمنية لمهرجانات بعلبك مدير الأمن العام نديم لطيف الذي رفض دخول هذا المطلوب للعدالة من بلدة بريتال وبعد هذه المواجهة المريرة مع العقيد غابي لطيف الذي أصرّ على إدخاله إلى المهرجانات وأصرّ العميد أبو زكي على رفض ذلك فكانت النتيجة الصادمة في هذا الوطن المعذب استبدال الموقوف بشقيقه (ص65)…

وبكل جرأة طبق القانون على جماعة الرئيس فرنجية في كازينو لبنان لتضييقهم على الضباط وطبق القانون على الراقصة كواكب وأثناء توليه مركزه الأمني في طرابلس عام 1973 كانت قمة عبقرية العميد عصام عندما واجه الموساد وعلى أعلى المستويات بتوقيفه الضابط الإسرائيلي الحامل جواز سفر ألماني مزور والذي كان له دوره في اغتيال القادة الفلسطنيين الثلاثة وكانت قمة الخبرة عند العدو عندما جنّد هذا الضابط عدة فدائيين ودرّبهم على عملية اختطافه هو نفسه في خطة جهنمية تصل رسائلها السياسية إلى الخارج قبل الداخل بأن الفلسطنيين خطفوا ضابطاً ألمانياً وهو الإسرائيلي بامتياز (ص95) وبعد ضغوطات من أميركا وألمانيا تمّ الإفراج عنه وأصبح هذا الضابط بعد ذلك رئيس الموساد.

وكان دوره بارزاً وفعالاً وبرؤيا إبداعية عندما كانت الأوضاع الاجتماعية تعيسة ومريرة في العاصمة الثانية طرابلس وكان فيها القبضايات يسرحون ويمرحون كل على غاربه وخاصة الشهير أحمد قدور ورفاقه ونسق العميد اجتماعاً مع سماحة المفتي الشيخ حسن خالد وسماحة مفتي طرابلس الشيخ نديم الجسر وألقى القبض على المطلوبين وحفاظاً على أهمية احترام الخصوصيات وبعيداً عن إثارة الحساسية دخل إلى مقعد أحمد قدور قوة من المسلمين وفقط المسلمين.

ومن أروع ما في الكتاب هو عندما تمّ إيفاده إلى أميركا في دورة تدريبية لمكافحة المخدرات فكانت المفاجأة الخطيرة أن الهدف لم يكن كذلك فلا مخدرات ولا من يحزنون كان الهدف هو قياس قدرة المشاركين في هذه الدورة على التعاون من أجل التحضير لعمليات انقلابية في البلاد التي ينتمي إليها المشاركون (ص101).

وتجربته الرائدة عندما أدلى بشهادته عن بوسطة عين الرمانة عام 1975 وإطلاق النار على المحتلفين في تدشين الكنيسة الذي سبق اعتداء الكتائب على ركاب البوسطة الفلسطينيين (ص145) وتحدث أيضاً عن اغتيال المعلم كمال جنبلاط وكيف كان أول الحاضرين في دير دوريت قبيل استشهاده مما أعطاه قوة في التحليل وصولاً إلى تحميل المسؤولية للضابط أحمد الحريجي مسؤول مكتب القوات السورية في سن الفيل… وصولاً إلى التوقف عن إصدار قرار ظني بناء على طلب مرجع أعلى من الرئيس سركيس… مروراً بتلك الحقبة التاريخية بعد استشهاد المعلم واستلام الأستاذ وليد جنبلاط المسؤوليات وقول جنبلاط للعميد: أنا ذاهب إلى سوريا لأصافح اليد التي قتلت والدي (181-204) وصولاً إلى عام 1982 ووصول العدو إلى بيروت وبالذات إلى ثكنة الحلو عندما حاولوا اقتحامها فكان التصدي البطولي للعميد والأمر بتدمير دبابة الميركافا الإسرائيلية والأمر بإطلاق النار على الدبابات العدوّة…

عميد عصام… تاريخ مثقل بأروع الصفحات الماجدات… صفحات العز والكرامة والعنفوان والعلم والجرأة والأقدار واتخاذ القرارات الصائبة وعدم الخوف إلا اللهم من الرب عز وجل… عميد عصام ستبقى مفخرة لكل مواطن يقول برأس مرفوع أنا لبناني… أنا من وطن عصام أبو زكي.

*رئيس جمعية طبيعة بلا حدود

اقرأ أيضاً بقلم محمود الأحمدية

القلم الحر والانتصار في زمن القهر

انسحاب واشنطن من اتفاقية باريس للمناخ ونتائجه الكارثية

في الذكرى 43 معلومات جديدة مذهلة عن عالمية فريد الأطرش

كمال جنبلاط البيئي: سابق لعصره

من كمال جنبلاط إلى الربيع الصامت إلى فرنسا

مَنْ أَحقّ من فريد الأطرش بنيل جائزة نوبل للفنون

كمال جنبلاط البيئي سابق لعصره

كيف لوطن أن يشمخ وفيه كل هذا العهر في مسلسلاته

حرش بيروت تحت رحمة اليباس… والتاريخ لن يرحم

مواسم التفاح بين الحاضر والماضي… قصة عزّ وقهر!

مصنع الإسمنت في عين داره ونتائجه الكارثية على البيئة والإنسان

كمال جنبلاط البيئي  وثقافة المواطن الحر والشعب السعيد

أولمبياد الريو والحضارة وعرب ما قبل التاريخ

مصنع الإسمنت في عين دارة: جريمة بيئية موصوفة

هل أحسنت؟ هل أخطأت؟ لا أعرف!!

حكايتي مع كرة القدم وفريق ليستر الانكليزي الذي هز اعتى الامبراطوريات

شكراً مسيو هولاند… أعطيتنا درساً في الحضارة والأخلاق!

غسان سلامة و”اليونسكو” وزواريب السياسة اللبنانية!

أنا علماني ولكني لي ملاحظاتي!

الدلع السياسي … إن لم نقل أكثر!!