تسليـم الوطن لقاصر

بسـام الحلبي

كانت فرنسا الحرة، التي مثلها في لبنان المندوب السامي “هللو” سنة 1943، تعتقد أن لبنان أصبح ولدها المدلل ويستحيل سلخه عنها، إن لم يكن جغرافياً، أقلّه ثقافة وعلماً وكاثوليكية علمانية تفصل بين الدين والدولة، ما يعني أنه بعد وضع الحرب أوزارها سيكون هذا الوطن، المركب سنة 1920، فرنسي الإنتماء بكافة اركانه المكونة له المستمدة من روح دستور الجمهورية الثالثة، أطول الجمهوريات الفرنسية عمراً حتى يومنا هذا، لذلك عندما حصل ذلك الإشكال التي أطلق عليه إسم معركة الإستقلال، نتيجة الضغوط البريطانية لتوسيع منطقة نفوذ المملكة التي كان يمثلها في منطقتنا الجنرال “سبيرز”، المؤيدة عربياً خاصة من مصر في عهد حكومة النحاس باشا، كما أن فرنسا المحتلة في ذلك التاريخ من القوات النازية وبحاجة الى الدعم البريطاني، لم تتصد للحركة الإستقلالية معتبرة أن لبنان في حال إستقلاله سيبقى دائراً في الفلك الفرنسي والكاثوليكي. ولم تكن فرنسا الحرة تعلم في تلك الأثناء أنها تسلم ثروة لقاصر.

وبالتدقيق بإدارة سلطة الإنتداب للبنان الكبير نجد أنّ فرنسا تستأهل لقب الأم الحنون بجدارة، لأنها خلال ثلاث وعشرين سنة من الإنتداب أوجدت أُسساً علمية وحضارية وثقافية وعلمانية لبناء جمهورية دستورية، على نمط جمهوريتها الثالثة. فهي قد وضعت للبلاد سنة 1926 دستوراً مقتبساً من دستورها ووضعت القوانين الحديثة المقتبسة بدورها من القوانين الفرنسية، فوُضع القانون المدني، والقانون التجاري، وقانون العقوبات، والقوانين العقارية بمختلف فروعها، ونظمت القضاء وسائر سلطات الدولة، إضافة إلى المؤسسات الرسمية المختصة بإدارة شؤون المواطن، مياه، كهرباء، نقل، حتى انها مُدُنياً حاولت تصميم بيروت كباريس صغيرة فكانت ساحة النجمة حيث مجلس النواب شبيهة لساحة النجمة الباريسية، وشارع المعرض شبيهاً بشارع الريفولي الشهير في باريس، وأوجدوا التياترو الكبير كأكادمية للثقافة شأن الاوبرا في باريس ايضاً، والأهم أنها تخطت التوزيع الطائفي رغم أنّ إعلان لبنان الكبير جاء بناءً لرغبة كاثوليكية سائدة وحاكمة في فرنسا أكثر من الفاتيكان نفسه، فشغل في فترة الإنتداب موقع رئاسة الجمهورية الرئيس الأرثوذكسي والماروني، وشغل رئاسة مجلس النواب السني والشيعي والمسيحي، والحكومة ترأسها المسيحي. وتصورت سلطة الإنتداب أن تنشأتها للشعب اللبناني جعلت ولاءه للوطن وليس للدين، شأنه شأن الفرنسي الذي يدخل إلى الكنيسة بوطنيته فيصبح بداخلها كاثوليكياً أو بروتستنتياً أو أورثوذكسياً أو مهما كان دينه أو مذهبه ويخرج من معبده أو مسجده فيعود فرنسياً.

هذا ما إعتقدته فرنسا عندما رضخت للضغط البريطاني وأعلنت إنتهاء الوصاية وإستقلال لبنان.

لا نعتقد أنّ الفرنسيين إعتقدوا في لحظة أنّ النظام الذي سيقوم بعد الإستقلال هو عكس ما علّمته لرجاله، فالكاثوليكي إعتبر لبنان الكبير تكوّن أساساً له وهو المتصرفية وما ضُم إليه هو من الملحقات التي تكونت لخدمته، كما كرّس هذا النظام الطائفية وبات اللبناني يدخل المسجد أو المعبد متعصباً فيخرج منه أكثر تعصّباً، وليس وطنياً، وهو الداء الذي حوّل المؤسسات إلى كاريكاتور، وطنيته لم ترتبط بلبنان بل كانت دائماً، وحتى يومنا هذا، مرتبطة بمرجعية، تارة خارجية وتارة أخرى مذهبية، إضافة إلى الفساد الذي أصبح في لبنان الرقم الأول في العالم، وما نراه اليوم ليس إلا نتيجة الأسس الفاسدة التي بنى عليها رجال الإستقلال لبنان الكبير، وجاء أولادهم وأحفادهم من بعدهم متشربين لهذه الأسس ما أوصلنا إلى المزرعة الراهنة التي بات الشعب المنكوب فيها يبكي أيام الفرنسي لكي لا نقول أيام العثماني.

أخطأت أيها الفرنسي الحنون، عندما إعتقدت أننا بلغنا سن الرشد فأعطيتنا إستقلالنا بتلك السهولة، فنحن ما نزال بحاجة إلى وصي يرعانا ويحافظ على ما تبقى لنا من هذا الوطن، على أن يكون هذا الوصي وصيّاً صالحاً وليس مثل الوصي الذي فرض نفسه علينا منذ عقدين فزاد الفساد فساداً والتخلّف تخلّفاً وسلم البلاد الى أبناء الطائفية بحيـث باتت شعارات رجال السياسة المحافظة على حقوق الطوائف وليس على الوطنية، واضافوا اليها ثقافة الميليشيات فتحاصصوا الدولة واعطوا لميليشياتهم اسم كتلة نيابية.

سامح الله ديغول وهللو وسبيرز ومصطفى النحاس، لأن الأعمال بالنيات ولم تكن نية هؤلاء أن يجعلوا من لبنان ماهو عليه، ولكن فاتهم أنهم يتعاملون مع عقل توقفت ثقافته وإنتاجيته في القرن الرابع عشر فسلموه مشروع وطن للقرن العشرين فكان ما كان .

(الأنباء)