بانوراما التصعيد الإقليمي وحلقات الربط بينها

أن تتحول قمة ميونيخ للأمن الدولي إلى منصة لاستعراض القوة وتبادل رسائل التهديد بين القوى الإقليمية الفاعلة في المنطقة، يعني أن الدبلوماسية الدولية في أزمة خطرة، وأن خطوط التواصل والحوار بين الدول أمام نفق صعب، سيما وأن منتدى دافوس الاقتصادي الذي انعقد في كانون الثاني الماضي، هو أيضا كان محطة لتبادل التهديدات والاتهامات بالإرهاب والترهيب بين إيران والدول المؤيدة لها من جهة والولايات المتحدة الأميركية وحلفائها من جهة أخرى على خلفية الاتفاق النووي الإيراني الذي تسعى واشنطن لتعديل وتضمينه ملحقا مرتبطاً بمنظومة الصواريخ البالستية التي باتت في حوزة الميليشيات المدعومة من إيران في اليمن ولبنان.

قمة ميونيخ للأمن، تزامنت مع تصعيد أمني وعسكري شمل محاور عديدة في المنطقة تبدو وكأنها مترابطة في ما بينها، فحملة التصعيد الأمنية والعسكرية التي أطلقها العدو الإسرائيلي على قطاع غزة، وقصفه المكثف لمراكز حماس، وإعلانه التوجه نحو شن عملية عسكرية شاملة على القطاع، بعد التفجير الذي أصاب عدد من العسكريين الإسرائيليين على حدود القطاع جراء انفجار عبوة ناسفة بمركبة إسرائيلية، سارعت حركة حماس لرفع مسؤولية زرع تلك العبوة عنها وعن مقاتليها، وعدم تبنيها أعمال التصعيد التي تعمدت تنفيذها مجموعات موالية لإيران في غزة ولا تلتزم الهدنة المتفق عليها بين حماس وإسرائيل.

خلال الأسبوع الفائت انتقل معظم قادة حماس إلى القاهرة، لمتابعة المواقف التصعيدية من هناك والاستنجاد بالقاهرة، حيث لم يعد أمام الحركة سوى خيار واحد وهو تسليم أوراقها كاملة للقاهرة، ودفع المسؤولين المصريين لوقف نتنياهو ومنعه من استغلال عملية التفجير تلك، والوصول معه الى حالة تهدئة جديدة وعدم الانجرار نحو حرب مدمرة وشاملة على غزة، على الرغم من أن التصعيد الإيراني على حدود غزة، قدم خدمة مباشرة للسياسة الإسرائيلية ومتطلباتها الراهنة، حيث أن نتنياهو يعاني من مشكلات داخلية مرتبطة بالفساد والرشاوى وجهتها ضده أجهزة الشرطة الإسرائيلية، التي قد تؤدي به الى الاستقالة. إلا أنه ومن خلال عملية التصعيد تلك وجد نفسه أمام منفذا شريعاً يخرجه من أزمته من خلال ربطه، بين التصعيد الإقليمي في سوريا والذي أوقع واحدة من مقاتلات سلاحه الجوي (F16) بكمين إيراني محكم، بالتصعيد ضد الفلسطينيين في قطاع غزة، ووضع ذلك في شراع الإدارة الأميركية التي تطلق رياحها ضد السلطة الفلسطينية في هذه الفترة.

لذلك فإن نتنياهو استفاد من حلقة الجنون تلك، وقادر على تحويلها من مسار تصعيدي، إلى حرب شاملة على قطاع غزة، إذا ما استطاعت حركة حماس ضبط المجموعات الإيرانية، أو الوصول الى تفاهم عميق مع السلطة الفلسطينية وحركة فتح والقاهرة، والوصول الى تثبيت حالة الهدنة الشاملة في غزة، والتي لا تريدها تل أبيب، ولا يريدها نتنياهو في هذه اللحظة، وربما لا يريد الذهاب الى الحرب أيضاً، بل يريد أن تبقى الأمور على حالها من انعدام الأمن.

بالتزامن مع التصعيد الإسرائيلي على غزة، وقعت طائرة إسرائيلية في حراب المضادات السورية – الإيرانية، على خلفية الضربات الجوية الإسرائيلية المتواترة لمواقع النظام وحلفائه في سوريا، ذهب بعدها العديد من التحليلات والتقديرات السياسية الى القول: “بأن حرباً سوف تقع بين إيران وإسرائيل على الأراضي السوريا وفوق رأس الشعب السوري”، إلا أن هذه التقديرات ليست في محلها وفق مصادر دبلوماسية غربية، حيث “أن النشاط العسكري الإسرائيلي في المنطقة وخاصة في سوريا، لا يمكن أن يتجاوز الاستراتيجية الأميركية، التي تقتضي تقليم الأظافر الإيرانية وليس بتر الأصابع”، فالإدارة الأميركية تدرك أن الأزمة في سوريا لم تصل بعد إلى مستوى الحل السياسي، وتدرك أيضاً، “أن روسيا لا تستطيع إنهاء الوجود الإيراني، فالوجود الإيراني على الأجندة الأميركية هو لتقديم التنازلات الكبرى على قاعدة الاحتواء السياسي، وليس على قاعدة الصدام الكامل كما يرغب بعض العرب وبعض السوريين في هذا المجال”.

في هذا السياق يمكن قراءة التوجه الإسرائيلي لفتح مشكلتي الجدار ومشكلة النفط في البلوك 9 اللبناني، وهي محاولة واضحة لقضم المزيد من الأراضي، وقضم جزء من المياه الاقتصادية اللبنانية، والمسألة هنا وفق المصدر عينه، “تدخل في إطار ربط النزاع أكثر مما هي مقدمات صراع”، فزيارة وزير الخارجية الأميركي ريكس تيلرسون إلى لبنان ضمن جولته في المنطقة، أتت لتقول أن النزاع اللبناني الإسرائيلي على الحدود البرية والبحرية لا يمكن حله إلا من خلال المفاوضات غير المباشرة بين البلدين، ولم تحمل زيارة تيلرسون أي تهديدات إسرائيلية..

ما لم تقله زيارة تيلرسون هو ما يمكن قراءته “في الارتباط العميق والدقيق للأزمة السورية بالتصعيد الإسرائيلي ضد إيران وبالتالي ضد حزب الله، والذي يرتفع سقفه إلى حدود الصراع العسكري المحتمل بين إسرائيل وإيران وحزب الله، والذي لم يصل بعد، ولن يصل بالقريب العاجل إلى مستوى الاشتباك الواسع”.

في المشهد الإقليمي الذي يقف خلف ما يجري في قطاع غزة، وعلى الحدود الجنوبية السورية، هناك (كباش) دولي أميركي – روسي له أسبابه المرتبطة بالدور الروسي في الانتخابات الأميركية، وأسبابه الدولية الخاصة بتعدد الأزمات والملفات المعقدة بين الكرملين والبيت الأبيض، سواء في سوريا، أو في أوكرانيا أو في القرم أو في المحيط الهادئ، والتي لا يمكن الوصول إلى حلول مباشرة لها في ساحة واحدة أو دفعة واحدة ولمرة واحدة، لذا فإن ما يجري من تصعيد إقليمي كبير على الساحة السورية وعلى دماء الشعب السوري، هو أن إيران وروسيا باتا أمام لحظة يمكن تلخيصها بالمثل القائل (حساب الحقل لا يتطابق وحساب البيدر)، أي أن الإنجازات التي حصلوا عليها في سوريا وما ادعوا أنه انتصار لهم، لا يمكن تصريفه في السياسة، فالفشل الذي لحق بمؤتمر سوتشي، والفشل الذي أصاب العديد من المحاولات التي قامت بها موسكو لإنتاج حل سياسي سوري على مقاس روسي ودون استبعاد الدور الإيراني، أوقع روسيا وإيران ومعهما النظام السوري في أزمة كبيرة.

ولعل عملية التصعيد في الغوطة واعتماد سياسة الأرض المحروقة للسيطرة عليها بعد سنوات من الحصار، تندرج ضمن محاولة إنتاج حالة سوريا جديدة على إيقاع انتصار عسكري، وهذا ما دفع روسيا وإيران ومعهم قوات النظام، الى شن الحملة الجنونية بالطائرات على الغوطة الشرقية، حيث أدركوا أن أي إنجاز عسكري جديد في إدلب ليس بالأمر السهل، فالتوجه نحو النقطة الأضعف في محاولة لتحقيق إنجاز عسكري، قد تدفع القوى الأخرى لإعادة النظر بمواقفها. لكن المصادر ترى أنه “مهما تكن نتائج الحرب على الغوطة الشرقية سواء انتصر النظام، أو استسلمت الفصائل المقاتلة، فإن النتائج العسكرية لن تترجم في السياسة السوريا على الإطلاق”.

الشرط الأميركي للتفاهم مع روسيا في سوريا وإنتاج حل سياسي، ينطلق أولاً من ضرورة استبعاد الدور الإيراني، وثانيا من أن الإنجازات الروسيا في سوريا لا تؤهلها لإنتاج حل سياسي للأزمة السوريا، وإنما للتفاوض على حل سياسي تضعه أميركا أولا بالشراكة مع الاتحاد الأوروبي، وعليه أدركت موسكو أن موقعها السياسي في سوريا لن يتجاوز الدرجة الثالثة بعد الموقع الأوروبي والموقع الأميركي، وهذا ما يغضب القيصر الروسي، ويجعله أكثر تمسكا بحلفائه الداخليين، خاصة بعد أن ثبتت القوات الأميركية مواقع تواجدها في شرق وشمال سوريا، وبعد أن دخلت في مصالحة جديدة مع الرئيس التركي رجب طيب أردوغان لتنظيم دوره وموقعه في سوريا، وإن لم تكن عناصر هذه المصالحة كاملة بعد، إلا أن ما سرب من معلومات عن تفاهم تركي – أميركي، يصلح لإعادة تنظيم آليات العمل المشترك بين الحليفين في سوريا، والتي توجت بزيارة تيلرسون الى تركيا والاتفاق على موضوعي عفرين ومنبج.

من جهة أخرى، لا يمكن الحديث عن انتهاء حالة الصراع حول منطقتي الميادين والبوكمال شمال شرقي سوريا، والتي تشكل ممر بري مع العراق، تركته القيادة العسكرية الأميركية في الفترة السابقة دون حسم لصالح الجيش السوري وحلفائه، وهذا يدفعنا الى النظر الى الهدف من ترك تلك القوات في مناطق متل القامشلي أو الحسكة أو في عفرين، أو وجود قوات رمزية للنظام على معابر بين سوريا والأردن والتي جرت تفاهمات حولها، هذه السياسة التي تجمع بين اتجاهين، عدم الكسر النهائي مع النظام وحلفائه واحتواء بعض المسائل، وفي نفس الوقت ترك علامات تفاوضية لاحقة تنتج معادلات جديدة انطلاقاً من تلك الرمزيات، يعني أن المشهد في سوريا سيستمر دون هدوء ودون اشتعال كبير يؤدي الى كسر أي حلقة من حلقات القوى الإقليمية المتصارعة داخل سوريا، فالإدارة الأميركية لا تريد إنهاء التعامل مع موسكو ولا تريد حالة كسر نهائي مع طهران، بقدر ما تريد نسج تفاهمات قد تؤدي الى إنتاج حالة جديدة لازالت غامضة حتى اللحظة.

في المحصلة العامة لدينا تفاهمات أميركية – تركية جديدة قد تصل الى تفاهمات أعمق وعمل مشترك يقوم على بناء التفاهمات، سيكون لها تأثير على الحدود السورية التركية بحيث تصبح مجمل هذه الحدود ما بين السيطرة الأميركية في القطاع الشرقي، والسيطرة التركية في القطاع الغربي لنهر الفرات، وقد نشهد إعادة صياغة لحالة الجغرافيا السياسية في سوريا لناحية السيطرة على مجمل الحدود السورية التركية من البحر المتوسط حتى حدود العراق.

*فوزي ابو ذياب- “الأنباء”