عارف الريس… “بيكاسو” الشرق!

ولد مسافراً، وفي كل بلد كانت له محطة يتوقف فيها على امتداد العمر الجميل الذي سرقت الحرب سنوات منه، متنقلاً من إفريقيا إلى أوروبا، فالولايات المتحدة، وأميركا اللاتينية. هكذا عاش عارف الريس حياة “معجوقة” بالمعارض الفنية، صاخبة بالمشاريع والرحلات والطموحات والأحلام، حتى عاش متنسكاً في سنواته الأخيرة في المحترف الذي شاء أن يكون مقره بمدينة عاليه، التي انطلق منها إلى شتى أصقاع الأرض، وحين عاد إليها لم يجد مكاناً أكثر دفئاً منها لاحتضان “جنونه الفني” المبدع.

ولد عارف نجيب الريس في عاليه عام 1928، ونشأ في بيئة فنية، حيث كانت لوالده محاولات في فن الرسم خلال إقامته في إفريقيا، كما أن والدته لطيفة بو رافع كانت مولعة بفن الرسم بالزيت، وهي التي شجعت ابنها على الرسم وتولت رعايته بنفسها.

مرحلة الدراسة 

إلى جانب الدروس الابتدائية التي تلقاها في الجامعة الوطنية في عاليه، بدأ عارف الريس دراسة العزف على البيانو والكمان على يد البولوني كزافييه في عاليه، قبل أن ينتقل إلى مدرسة عينطورة عام 1946 ليكمل دراسته الموسيقية، بالاضافة إلى الرسم المائي والزيتي مع الفرنسي لاسوس. وكان الجو مختلفاً وجديداً بالنسبة إلى الفتى الخارج من عمق الجبل للمرة الأولى لينتقل إلى بيئة مختلفة.

في عينطورة، تعرف إلى زميل من بسكنتا أهداه كتاب “لقاء” لميخائيل نعيمة، فصعق من روعة الكتاب، وبعث برسالة إلى المؤلف، وتلقى منه دعوة لزيارة الشخروب، ولبى التلميذ الدعوة حيث، التقى ميخائيل نعيمة وأعجب بآرائه في الانسان والطبيعة والتآلف بين البشر. وحين خرج من عنده، أحس الفتى أن نعيمة استطاع أن يفكك عزلته الداخلية، فانطلق منذ ذلك الوقت يرسم باحثاً عن التناسب الروحي بين الشرق والغرب، من خلال الأجواء الفرنسية التي تتميز بها مدرسة عينطورة، والروح الشرقية التي يتحلى بها “ناسك الشخروب”.

المعرض الأول

في العام 1948، أقام الفتى اليافع عارف الريس معرضه الأول في قاعة “الوست هول” بالجامعة الأميركية في بيروت. وفي ذلك الوقت، صودف انعقاد مؤتمر الأونيسكو في بيروت، فزار المعرض رئيس بعثة الأمم المتحدة الذي أبدى إعجابه الشديد باللوحات، إلى درجة أنه أعطى الفنان الشاب بطاقة خاصة تخوله حضور كل فعاليات المؤتمر، كما طلب نقل اللوحات إلى قصر الأونيسكو في بيروت حيث عرضت لوحاته إلى جانب الفنانين الكبار آنذاك من أمثال: فروخ والأنسي والجميل.

الهجرة الأولى

وشاءت الظروف عام 1948 أن يسافر عارف إلى السنغال ليلتحق بأشغال والده، وفي العاصمة داكار أكمل رسم لوحاته التي حملت أجواء إفريقية واضحة، وإلى جانب الرسم والإبداع، عمل في التجارة، غير أنه فشل في ذلك فشلاً ذريعاً، مما جعل الحاكم الفرنسي هناك يقول له، أنه اللبناني الوحيد الذي أتى إلى تلك البلاد ليرسمها، لا لكي يجمع ثروة كما يفعل عادة المغتربون اللبنانيون!

والطريف أن عارف الريس حين أبدى رغبته في السفر إلى باريس، وافق والده على الفور، قائلاً أمام عدد من الأصدقاء “أن كلفة دراسته في باريس أرخص من كلفة عمله في تجارة الفستق التي تكبد فيها خسائر كبيرة”… لأنه كان يتكل على العمال الأفارقة في تصريف الأعمال، وينصرف هو إلى رسم اللوحات!

إبن البلد في باريس

في العاصمة الفرنسية، “تأثر” الشاب الجامح وهو يتنقل بين متاحف “اللوفر” وأكاديمية الفنون الجميلة، ومحترفات الفنانين الكبار، برفقة الفنانة سلوى روضة شقير، كما كان يلتقي في تلك المرحلة برفاق الفن من أمثال جان خليفة، وفريد عواد، ونقولا نمار، وشفيق عبود، وسعيد عقل، وآخرين. كما التقى الفيلسوف الفرنسي جان بول سارتر في جلسات غنية بالفكر والفن، ثم تأثر مجدداً بين تيارات الفنون التي كانت تبحث آنذاك عن هوية الانسان الجديد في سنوات ما بعد الحرب العالمية الثانية.

وعن تلك المرحلة يقول عارف الريس: “لقد حولتنا الفنون الحديثة إلى أناس قلقين يبحثون عن أرض يضعون فوقها أقدامهم، فكان بيننا فنانون عرباً يقولون بالعودة إلى الخط والزخرفة وحضن التراث، ومع ذلك ارتبطت أعمالهم بالتجريد الغربي وفقدت حسها الروحاني، وعشنا في مأزق دفعنا إلى التفتيش عن انتمائنا الحقيقي، فقد جذبتنا باريس نحو الانتماء الصحيح ودفعتنا للاهتمام بحضارتنا، بعد أن رفضتنا”.

ولعل ذلك ما دفع عارف الريس إلى زيارة السنغال في كل عطلة صيفية، ففي إفريقيا كان يشعر بالاطمئنان والحياة الهادئة والمستقرة والصافية، حيث العيش وسط البشر العراة تماماً، الذين يرقصون حتى الفجر، ويرتدون الملابس الزاهية الألوان، ويعتبرون أجسادهم جزءاً من جمال الطبيعة.

ومع تلك القوانين البدائية انسجم عارف الريس، فرسم احلى لوحاته المرتبطة بسحر الارض الافريقية وشمسها واهلها الملونين.

وفي العام 1957، وبعد  تسع سنوات من العيش في عاصمة الفنون باريس، واطلاعه على كل الفنون والمذاهب المتعددة في الرسم من الكلاسيكية إلى السوريالية والتشكلية  وغيرها، قرر العودة إلى بيروت للاستقرار فيها، لكن اندلاع الأحداث في 1958 جعلته ينسحب إلى المختارة، مستفيدا من المحترف الذي وضعه في تصرفه الزعيم كمال جنبلاط، الذي ربطته به علاقة صداقة وإعجاب بفكره الاشتراكي، وتناغم معه فكرياً ووجدانياً وفنياً، وهو الذي صمم منحوتات مقبرة بقعاتا تخليداً لأرواح شهداء ثورة 1958.

ابن بطوطة

وذات يوم من عام 1959 نظم المركز الثقافي الإيطالي في بيروت معرضاً لأعمال عارف الريس، حضره جورج سيير، وميخائيل نعيمة، وجورج شحادة، وحصل بعد ذلك المعرض على منحة إيطالية ليلتحق بأكاديمية الفنون الجميلة بفلورنسا، ومنها انتقل إلى روما حيث أقام معرضاً للوحاته في القصر الملكي .

وبعد عودته إلى لبنان شارك عارف في مسابقة لوزارة التصميم حول تجميل المدن اللبنانية، ففاز بالمرتبة الأولى، فانتدبته الدولة لتمثيلها في معرض نيويورك بنصب فينيقي، كما نال منحة أميركية خاصة، ليمضي سنتين متنقلاً بين نيويورك وواشنطن وولايات أخرى متعرفا إلى الفنانين الانطباعيين هناك، لينتقل بعد ذلك إلى المكسيك في رحلة فنية انطبعت تأثيراتها في عدد من أعماله الفنية.

وبعد العودة إلى لبنان، ساهم في إنشاء معهد الفنون الجميلة بالجامعة اللبنانية، وأنشأ مع جانين ربيز “دار الفن والأدب”، ثم أسس نقابة الفنانين التشكيليين التي ترأسها لمدة 12 سنة، إلى جانب مزاولة التدريس في الجامعتين الأميركية واللبنانية.

لكن اندلاع الحرب اللبنانية عام 1975 كان له تأثير مؤلم في نفسية عارف الريس، وانعكس ذلك من خلال الكتاب الذي أصدره بعنوان “طريق السلم” الذي صدر عام 1976 عندما كان في زيارة للجزائر وهو يحتوي على 22 لوحة تلخص مجمل الأحداث المهمة آنذاك، وسيبقى هذا الكتاب تسجيلاً للأحداث المرعبة التي عاشها لبنان في أتون تلك الحرب.

الهجرة إلى السعودية

وفي عام 1980، وبعدما أرهقته ظروف الحرب، لاحت الفرصة للسفر إلى السعودية فشدّ رحاله إليها، حيث أبدع في فن النحت، مواكباً موجة البناء في البلد الشقيق، بينما كان لبنان يتعرض للدمار. وفي المملكة ارتبط عارف الريس بعلاقة صداقة بالأمير عبد المجيد بن عبد العزيز، أمير منطقة تبوك آنذاك، والذي كلفه بتنفيذ عدد من المشاريع التجميلية في مدينة تبوك التي تقع في شمالي المملكة، ومن أبرز تلك المشاريع النصب التذكاري “يا رب” الذي يرتفع 12 متراً، ومجسم “الله نور السماوات والأرض”، و”عمران ونهضة” وكلها مجسمات من الرخام الأبيض وسط الحدائق ونوافير المياه.

 

وعندما انتقل الأمير إلى المدينة المنورة حرص على اصطحاب عارف الريس معه إلى تلك المدينة المقدسة، حيث حقق المزيد من إنجازاته الفنية الرائعة. أما التحفة المهمة فهي المنحوتة العملاقة المستوحاة من كلمة “الله” التي بنيت من الألمنيوم في إيطاليا، ويصل ارتفاعها إلى  27 متراً حيث تنتصب في ميدان فلسطين بمدينة جدة. كما أبدع عارف في تلك الفترة أكثر من 200 لوحة زيتية تعتبر من أهم لوحاته.

وبعد غياب نحو عشر سنوات، عاد عارف الريس إلى “عروس المصايف” عاليه حيث قام بتحويل فسحة جميلة من منزله إلى محترف، راح يصمم وينفذ فيه مجموعة من منحوتاته الفريدة، بالإضافة إلى إشرافه على تنظيم “سمبوزيوم” عاليه الذي حقق شهرة عالمية، بفضل تعاون رئيس بلدية عاليه وجدي مراد في تنفيذ هذا المشروع الثقافي والفني المتميز.

عارف الريس الفنان

يعدّ عارف الريس واحداً من أبرز الفنانين التشكيليين والنحاتين العرب، وصاحب قامة فنية كبيرة، وقد ذاع صيته خارج النطاق العربي، خصوصاً وأنه في معظم إبداعاته يستوحي الطابع الشرقي، والتراث الذي يمنح أعماله نكهة متميزة. وفي الحديث عن الحركة التشكيلية العربية، لا يمكن إلا الحديث عن هذا الفنان الذي كانت له مساهمة بارزة في عالم الفن، إلى درجة أن بعض النقاد الأجانب أطلقوا عليه لقب “بيكاسو الشرق”. حيث كان عارف مبدعاً في الشعر كما في الفن، ويملك عدداً من المواهب التي قلما تجتمع في شخص واحد.

وعارف المفكر

إلى جانب إبداعاته في الرسم والنحت، تميز عارف الريس عن غيره من الفنانين بثقافة عميقة في الفكر والأدب، ولولا أنه انشغل بالفن، لكان واحداً من الشعراء والمفكرين. ومن رؤاه المستقبلية أنه كان قد توقع في أواخر الستينيات اندلاع الحرب اللبنانية عام 1975 وذلك من خلال معرضه الفني “دماء وحرية”، كما كان مناضلاً ثورياً عاش مع الحركات المطلبية والوطنية منذ نعومة أظفاره، فقد كان يشارك في التظاهرات أيام الانتداب الفرنسي على لبنان وسورية، وكان من المتحمسين للثورة الجزائرية، وقدم جدارية كبرى تخلد نضال الشعب الجزائري ضد الاستعمار، وهي الجدارية وهي ما تزال معلقة في المتحف الوطني بالجزائر.

وتابع عارف الريس مسيرته الثورية مع الرئيس جمال عبد الناصر، والمعلم كمال جنبلاط، لكن ما تعرض له العراق من غزو أميركي أصابه بصدمة في أواخر أيامه، ويبدو أن قلبه المرهف لم يتحمل سلسلة الهزائم العربية، فتوفاه الله عام 2005 بعد حياة حافلة بالإبداع والإنجازات، حصد خلالها أكثر من عشرين جائزة عالمية، وترك للأجيال من بعده مجموعة من الكتب القيمة عن الفن ومدارسه وتاريخه.

شخصية ساخرة

عارف الريس كباقي الفنانين الكبار كان صاحب مزاج. شخصيته مزيج من الجد والهزل، والنكتة لا تفارق مجلسه، وحضوره كان يطغي على كل المجالس. وقد عرفته مقاهي شارع الحمراء البيروتي نجما مميزا، فما من جلسة تقريبا عرفتها مقاهي ذلك الشارع ايام الازدهار، إلا وكان عارف الريس وسطها يشارك في النقاش وفي الجدل ويعلو صوته بنظريات فلسفية تشابه لوحاته الزيتية ومنحوتاته البوهيمية.

ومع صخبه وعجقته كان عارف صاحب قلب طيب، كريم النفس، وأباً رقيقا متفهما حنونا. وهو تزوج من الفنزويلية اللبنانية الأصل مارتا  التي اعطته اجمل ثمرة في العالم ابنته “هلا”، التي نشأت بدورها في بيئة فنية، فوالدتها رسامة بدورها. ولكن هالة لم تتأثر في رسوم والدتها ولا في لوحات والدها ومدرسته الفنية، بل كان لها شخصيتها واسلوبها الخاص الذي يختلف كل الاختلاف عن الوالدين. وهي اليوم تعمل على أرشفة حياة والدها ولوحاته وجدارياته ومنحوتاته من خلال جمعية عارف الريس التي تقع في منزل الفنان في عاليه.

نقلا عن مجلة “المال  والعالم”، العدد 309، شباط 2018.