الدَين العام ومستقبل الأجيال القادمة/  بقلم د. وليد كامل أبو خير

تبدو مسألة الدَين العام من المعوقات التقليدية في منظومة الإقتصاد اللبناني الحر، وعلى ما يبدو فإنها تشكّل تحديًا موجّهًا ضد الأجيال الصاعدة.

تدلّ مؤشرات حركية الدَين الحكومي وبالدليل القاطع على تفاقمه عامًا بعد عام، وكأن الحكومات اللبنانية في سباتٍ مطبق حول ما يجري من حولها على المسرح العالمي من تحوّلات ومن إعادة هيكلة جذرية لمفاهيم السياسات الإقتصادية في محاولات تصبّ حول رفع إجمالي النواتج الوطنية والتي تسهم بما لا يقبل الجدل بتخفيض حجوم المديونيات العامة.

وكنظرة لا تخلو من التشاؤم حين أضحى الدَين الحكومي اللبناني فوق السيطرة. وفي هذا ما يؤشّر إلى الدنو من حافة كارثة مستقبلية. ففي علوم المحاسبة عمومًا حيث تؤكّد على قاعدة أساسية مفادها أن “تفوق الإلتزامات المالية في أي كيانٍ على أصولها، هي من المخاطر الموقنة لضياع هذه الأصول ومعها الحقوق، مما يفضي إلى مرتبة الكارثة الكلّية”. فهل تخطّت إلتزامات الحكومة اللبنانية ككيانٍ أصولها؟ وماذا بقي للأجيال القادمة من مدخّرات تستنهض الهمم فيهم؟

وإذا أخذنا بالإعتبار أن الثروة المائية هي أحد أصول الكيان اللبناني كداعمٍ لإقتصاده، حيث يأتي الردّ على نحوٍ تشاؤمي، من أن التحوّلات المناخية قد أثّرت تأثيرًا كبيرًا على هذه الثروة والتي تعتبر أحد مقومات قطاعي الزراعة والصناعة اللبنانيَين، ليفقد بذلك أحد أصوله الإستثمارية المولّدة للواردات والتي تسهم في إعلاء معدّل الناتج المحلي الإجمالي فيه، حيث لا غرابة من أن ينعكس ذلك على زيادة في معدّلات المديونية العامة.

كما لو أخذنا بالإعتبار أيضًا أن الموارد الطبيعية من المواد الأولية والخامات والتي تصنّف من الأصول الإستثمارية، بحيث يمكن الإعتماد عليها كمصدرٍ يولّد ناتجًا وطنيًا يسهم في تخفيض حجم الدَين العام، حيث يأتي الردّ بنقطتين: أولاها، ما هي نسبة هذه الموارد من الثروة الوطنية؟ وثانيها، حيث أن المستوردات من هذه الموارد عالية كونها لا تكفي لإستخدامها في العديد من القطاعات الإنتاجية اللبنانية مما يرفع التكلفة الإستثمارية. فهل يمكن إعتبار هذه الموارد أصولًا من أصول الكيان اللبناني؟

وفي إنسيابية المسببات وراء إرتفاع حجم الدَين العام اللبناني، والتي أقل ما يقال عنها أنها مسببات سياسية ترتبط بإعتماد لبنان الديمقراطية التوافقية سبيلًا إلى التوافق فيما بين أطرافه السياسية. لهذا، فإن التراشق السياسي (وآخرها ما حصل في الأسابيع القليلة الماضية وما رافقها من تحركات ميدانية) ما ينعكس بالتلهي وإشاحة النظر عن السياسة الإقتصادية والإنمائية والإستثمارية في سبيل تقوية عصب الإقتصاد، مما يسهم في زيادة الأعباء والتي تؤدّي إلى زيادة حجم الدَين العام. فالتراشق السياسي يسحب بذيوله الملفات الإقتصادية لتظهر إلى الواجهة ملوّحةً التهديد بها مما يقوّض البعض منها فتصبح عامل تأزم يهدد أركان الإقتصاد. وهذا ما يعدّ مكمنًا وراء إنجرار لبنان إلى فخ المديونية.

وتتوالى المسببات وراء إزدياد حجم الدَين العام للإطلالة على سببٍ آخر غاية في الأهمية هو: “تسييس الإنفاق” بحسب التوزيعات المناطقية والطائفية، وهذا ما يقف عائقًا أمام رفع معدّل الناتج المحلي، وبالتالي ينعكس زيادةً في حجم الدَين العام. ويظهر أن قطاع الطاقة لديه الحظوة الكبرى من نسبة التسييس الإنفاقي عن غيره من القطاعات الإقتصادية الأخرى، مما تضطر الحكومة إلى اللجوء لتمويل هذا القطاع المكهرب من مصادر تمويلية خارجية تؤدّي في أضعف الأحوال إلى إرتفاع معدّل الدَين السيادي كما وإرتفاع أعباء خدمته. وبحسبنا حيث يستدل من أن الإنفاق الجانح على قطاع الكهرباء هو إنفاق تمويلي متطفّل على الإقتصاد اللبناني وإن تأثيراته الإستهلاكية البحتة Consumption Effects تجنح في إتجاه تغطية العجز التراكمي في هذا القطاع حيث لا يمكن وضعه ضمن خانة الإنفاق لأجل الإستثمار والذي يتوقع من خلاله عائدات مالية في المستقبل وبحسب تطور المراحل.

وهذا ما يدلّل على إن نسبة كبيرة من إجمالي الدَين العام اللبناني إنما نتجت عن نفقاتٍ غير إستثمارية تقف الأجيال المستقبلية عاجزة عن الوفاء بها. فالجزء الأكبر منها تصل إلى حدود 75 إلى 85 بالمئة هي نفقات حكومية تتوزع ما بين المرتبات والأجور وبين فوائد على خدمة الدَين (والتي تصل نسبة هذه الأخيرة إلى حوالي ثلث مجموع الإنفاق الحكومي)، إضافة إلى نفقات رأسمالية وبنسبة ضئيلة، مما يستبعد عنها سمة الإستثمار المجدي.

ولنا أن نشير أيضًا إلى أن من مسببات إرتفاع معدّل الدَين العام اللبناني هو عدم الوضوح كما والتغاضي (ربما المتعمد) عن عدم إقرار الموازنات الوطنية ولسنوات خلت إلاّ لأسباب التقاسم السياسي للإنفاقات. فعدم إقرار الموازنات طيلة السنوات الماضية والإبقاء على تطبيق القاعدة الإثني عشرية في الصرف، إنما يسهّل تسييس الإنفاق في ظل عدم اليقين لحجم الواردات، مما يرفع منسوب هذه النفقات المؤكّدة على الواردات المتوقعة، وبالتالي يؤدّي إلى عجزٍ متراكم يصار إلى تغطيته بأساليب المديونية.

وبالعودة إلى المنطق العلمي في علوم الإقتصاد من أن إرتفاع حجم المديونية لا يوصل إلى إفلاس الدولة بالمفهوم العلمي التطبيقي. ذلك أن الدولة تمتلك من السياسات والأدوات الإقتصادية ما يكفي لإبعاد شبح الإفلاس، وبالتالي فإنه بإستطاعتها جدولة الخطر الإفلاسي من خلال إجتراحها حلولًا تسهم في زيادة وارداتها المالية وتغطية عجز المديونية العامة، أللّهم غير تلك التقليدية منها كإعتمادها التشريعات الضريبية التي تأتي نتائجها المباشرة على حساب المواطنين في قدرتهم على إحتمال العبء الضريبي الذي سيقتطع من مداخيلهم الأسرية، وفي هذا ما يدعو إلى التساؤل عن أثر تطبيق الضريبة على القيمة المضافة منذ العام 2001 ولتاريخه، حيث لم يشهد ميزان رصيد الدَين العام أي إنخفاضٍ جراء هذا التطبيق الإصلاحي في السياسات الضريبية والتي أشارت توصيات مؤتمري باريس 1و2 إليها، بل شهد عبئًا على كاهل المجتمع. أو كشروعها في عمليات إصدار النقد والذي يصطدم في التغيّرات في مستوى الأسعار، ما يؤدّي إلى زيادة معدّل التضخم ومدى إنعكاسه على معيشة المواطنين في فقدانهم جزءًا من مداخيلهم لسداد فروقات الأسعار الناتجة على إحتياجاتهم الضرورية والإستهلاكية اليومية. فأين الدولة من ضبط الإنفاق ولجم الفساد والحدّ من التهرب الضريبي…؟؟

محصلة القول، يعدّ معدّل الدَين العام اللبناني منسوبًا إلى معدّل نمو الناتج الوطني الإجمالي، من بين أعلى معدّلات الديون السيادية بين دول العالم إذا جازت التقديرات المقارنة، وبالتالي لا يمكن لجم هذا التفاقم إلاّ من خلال السعي على رفع معدّل الناتج المحلي اللبناني من جهة، كما والحدّ من خفض الفوائد على خدمة هذا الدَين من جهة ثانية.

فالخوف من إستمرار تصاعد حجم الدَين العام في لبنان، أن يضطر إلى خوض تجربة اليونان.

فهل هذا لمصلحة الأجيال المستقبلية؟

*باحث إقتصادي وخبير في قانون المحاسبة لدى المحاكم التجارية