من لم يقرأ مقالة جنبلاط.. فليفعل/ بقلم صلاح تقي الدين

لا يتوانى رئيس “اللقاء الديموقراطي” النائب وليد جنبلاط عن اقتراح حلول قابلة للبحث والنقاش، وهو الذي أثبت عبر تاريخه السياسي المديد أنه من دعاة الحوار والانفتاح والساعي ضمن إمكانياته المتاحة إلى توفير مناخ من الاستقرار يرغب في أن ينسحب إنماء وتنمية وازدهاراً على طول مساحة الأرض اللبنانية.

وما مقالته في صحيفة النهار اليوم سوى وجها من أوجه هذه الاقتراحات التي لم يتوقف يوماً عن التقدّم بها، لكنه في واقع الحال فإن ما يقدّمه يشكّل برنامج إنقاذ وطني لكافة المشاكل التي يعاني منها اللبنانيون، داعياً إلى الابتعاد فعلياً عن “واقع التنظير الجماعي” والذهاب نحو “تحقيق خطوات جدية في مكافة الفساد والاصلاح الجدي قبل فوات الأوان”.

من يعرف وليد جنبلاط، يعرف أنه من ضمن قلّة من السياسيين، إن وجدوا، الذين يتابعون عن كثب كل شاردة وواردة على مستوى أداء الدولة ومشاريعها، وأن ثقافته العالية وسعة اطلاعه تسمحان له التطرّق إلى “العيوب” التي تعتري عمل الدولة والاعتراف بالأخطاء التي ارتكبت باسم “بناء الدولة” والتصويب عليها سعياً لتصحيحها.

في الفساد الذي رفع كثيرون من العاملين في الشأن العام، شخصيات وأحزاباً شعار مكافحته، يعترف جنبلاط أن المستوى المتقدّم من الاهتراء السياسي والاقتصادي والاجتماعي والبيئي يجعل من التنظير وتقديم النصائح عملاً لا يجدي، فيدعو بالمقابل إلى التوقف عن رفع الشعارات والتحول نحو العمل الجدي لـ “ترقيع” هذا الاهتراء ومعالجته.

وعلى قاعدة أن البيانات الطنانة التي يتقدّم بها المعنيون حول الهدر والمحسوبيات، يدعو جنبلاط إلى التوقف عن الادلاء بالبيانات والتصاريح التي تتطرق إلى هذا الملف، واقتراح الحلول العملية لوقفها والتوقف عن التدخل في التعيينات على قاعدة المحسوبية والمنفعة الخاصة، والتوقف عن “التجوال” حول العالم على حساب الدولة.

وابتكر جنبلاط، كما يفعل دائماً، عبارة “العداد ماشي” في إشارة إلى تصاعد حجم الدين العام الى حدود غير مسبوقة، وهذه ليست المرة الأولى التي يدعو فيها إلى الانتباه إلى هذا المؤشر الخطير والذي يهدد بانهيار البنيان الاقتصادي والمالي والاجتماعي للبنان، غامزاً من قناة الصفقات المشبوهة في كافة المجالات والمجاهرة بعدها بـ “العفة” و”الطهارة”.

لم يعرف لبنان سياسياً تحلّى بالجرأة التي يتمتع بها جنبلاط لناحية الاعتراف بالخطأ والبوح باعترافه علناً، وفي باب النقد الذاتي دعا إلى الترفّع عن الحساسيات والصغائر ومصارحة الرأي العام بالحقائق وتقديم أمثلة جديدة عن الحكم قائمة على الشفافية والابتعاد عن المنفعة وممارسة النقد الذاتي دون جلد الذات.

يعرف القاصي والداني اهتمام رئيس اللقاء الديموقراطي بالبيئة ولم يخطئ من أطلق عليه صفة “البيئي الأول” في لبنان وهو حوّل بقعة عزيزة من الوطن إلى مساحة خضراء بيئية بامتياز وتولّى على ما يقارب 20 عاماً معالجة مسألة النفايات قبل أن يتحول أصحاب الأقلام الرخيصة والنفوس الضعيفة والطامحون إلى المناصب بتحميله مسؤولية عودة أزمة النفايات، علماً أنه كان، ولا يزال، من الذين حذّروا دوماً مما آت على لبنان من مصائب في هذا المجال، فاعترف أن الفشل صفة ملازمة لهذه الأزمة التي لم يعد مفيداً معها الغرق في النظريات المتعلقة بالحرق أو الفرز.

غير ان ما لم يعهده جنبلاط عشية تسليمه الأمانة إلى نجله تيمور، هو التراجع الخطير في مستوى الخطاب السياسي الذي يعيده إلى انهيار منظومة القيم الاخلاقية والانسانية، فكل الذين تعامل معهم على مدى 40 عاماً من حياته السياسية، كانوا يتمتعون على الأقل بالرجولة ويتحلون بصفات “أبناء البيوت” بمعنى أنهم إذا كانوا يعادون، يعادون بشرف وأخلاق، وهو ما يفتقده اليوم جنبلاط ويتحسّر عليه ويدعو إلى الكف عن المحاضرات والندوات التي تبشّر بهذه المنظومة المندثرة بكل أسف.

يقول جنبلاط إنه لبناء الوطن يجب الذهاب لتحقيق خطوات جدية في مكافحة الفساد والاصلاح الجدي، وذلك قبل فوات الأوان وانهيار ما تبقى من بنيان الدولة على رؤوسنا جميعاً.

من لم يقرأ مقالة جنبلاط اليوم، فليفعل ويتعظ .. قبل فوات الأوان.