الأكراد رقماً صعباً في المعادلات
د. قصي الحسين
7 فبراير 2018
لم يعد الأكراد بعد اجتياح العراق وبعد انحسار النظام عن شمال سورية، لقمة سائغة، لا في حلق إيران ولا في حلق تركيا. فمنذ أواخر القرن الماضي سلم النظام السوري عبد الله أوجلان إلى تركيا، ظناً منه أنه بذلك يستريح من شوكة في حلقه. غير أن تركيا، غرزت شوكة الأكراد من جديد في ظهر سورية، فأصابت بذلك جهازها العصبي في الشمال خلف الفرات والجزيرة الفراتية، ولم تعد قادرة على الحركة هناك، خصوصاً بعد تعاظم دورها مع الربيع السوري في العام 2011.
كذلك لم يستطع النظام العراقي الذي أرساه الأميركيون بعد تسليمهم بدور إيران فيه، على أن يجعل الأكراد يطمئنون إلى غدهم في كنفه. فسارعوا إلى “الناي بالنفس” عن “النظام العراقي الإيراني المشبوه”، فاستقلوا بأربيل والسليمانية وكركوك، وجميع الحقول النفطية ومساقط الأنهر المائية وحصون الجبال الإستراتيجية، ولو ندّت عنهم “بعشيقة” فوقعت عشيقة الأتراك في حضن معسكر تركيا هناك.
وتحاول الأخيرة أن تدجن الأكراد وتجعلهم يدخلون في خدمتها على حدودها الطويلة مع سورية، بعدما فتحت بواباتها للإسلاميين والمعارضين الآخرين من الجيش الحر وغيره من فصائل المرتزقة السورية، كي يغرزوا فيها ما صنعه الحداد. وها هي اليوم تجد نفسها عاجزة عن جعل الأكراد يصطفون خلفها، بعدما جعلت منهم الثورة السورية “رقماً صعباً” بعد معارك كوباني/ عين عرب وعفرين وتلعفر والجزيرة الفراتية وصولاً إلى منبج وباب الهوا. وهي تحتسب لذلك ألف حساب. وربما تهدد وتتوعد، وربما تنـزلق إلى حرب، خصوصاً وأن “السياسة الأميركية الكردية” في شمال سورية غير نزيهة. بل هي ذات أطماع بالحقول وبالحصون وبالقواعد العسكرية والأذرع الحربية والإستراتيجية.
وهاجس تركيا اليومي، هو بروز حلم الدولة الكردية المستقلة على الحدود مع سورية. ولا تنظر تركيا إلى هذه المسألة على أنها خطر خارجي وحسب، وإنما تراها تمثل الخطر الداخلي بعينه. ولهذا تزعزع فكرة الإدارة الكردية الذاتية في شمال سورية، استقرار المناطق التي يتواجد فيها الأكراد في تركيا نفسها. وربما لهذا السبب أجهضت تركيا عملية السلام في سورية، غير أن ذلك لم يطوع الأكراد لرغبتهم، بل أمعنوا في عسكرة نزاعهم مع تركيا. وغدوا في مواجهتها بالاستناد إلى السياسات الأميركية الجارية هناك رقماً صعباً.
إن “وحدات حماية الشعب” الكردية مدعومة من أميركا، تثير سخط تركيا. غير أن معالجتها لم تعد في يدهم لتجاوزها الاقليم إلى ما ورائه من دول عظمى، ذات غالبية شعبية تتعاطف مع القضية الكردية. فلا أميركا ولا روسيا ولا أوروبا، تستطيع بعد الآن، أن تعدم القضية التركية أو فكرة الدولة الكردية الطامحة للمحافل الدولية.
وتزعم روسيا أنها تعمل على خط التهدئة وخفض التصعيد في الشمال السوري، وتعبيد الطريق أمام اتفاق سلام بين النظام ومجموعات الثوار. غير أن هذه الاتفاقات سرعان ما تلقى مصير اتفاقات سابقة، وافقت عليها روسيا وتركيا والنظام، ثم انفضت عراها وانفرط عقدها، لأن عقدة الأكراد في الشمال السوري، لم تحل بعد. بل هي تمثل الرقم الأصعب في المعادلات.
وعبثاً تضلل السياسة التركية الاحتوائية للإدارة الذاتية الكردية، عمليات السلام والحرب على حدودها. إذ لم يعد مقبولاً عند الأكراد أي شكل من أشكال المساومة على قضيتهم، بل أصبحوا محكومين بالاستقلال الذاتي لدى شعوبهم وأحزابهم في جميع المناطق التي يتواجدون فيها والتي تقع على حدود أربعة دول كبرى ذات أنظمة شمولية أو شبه شمولية هي: إيران والعراق وسورية وتركيا.
وربما خسرت الولايات المتحدة من جديد أمام روسيا في سورية، غير أن نظام الأسد الذي يستميت في بسط ألويته في الشمال السوري أيضاً ماضٍ في سياسته لاستعادة سورية كاملة ولو بالقوة، مستنداً إلى سلاح الجو الروسي ولوجستيته وأجهزته المحدثة. غير أن الأكراد سوف لن ينصاعوا إلى بيت الطاعة عند النظام مجدداً، مهما كان كلفة ذلك باهظة عليهم.
وحاولت تركيا المراهنة على رحيل الأسد للإمساك بالورقة الكردية من بعده. وعندما شعرت أنها تغامر بخسارة كاسحة، انعطفت إلى روسيا، وغدت تدور في فلكها سعياً لتقليل أضرارها. وهذا ما أضر بها عند الأميركيين. وتحاول روسيا أن تكون “وسيطاً نزيهاً” بين الأكراد من جهة وإيران وتركيا من جهة أخرى.
غير أن الإيرانيين لا يجدون بديلاً عن النظام حتّى الآن ولا عن روسيا، ولا هم في وارد التنازل عن أي شبر من سورية، خصوصاً في المناطق الشمالية، حيث أراضي الأكراد ومناطقهم التاريخيّة المعهودة. والأكراد يدركون ذلك بقوة خبرتهم في التاريخ والجغرافيا. ولهذا يتحصنون وراء قضيتهم بقوة ولا يساومون عليها، لا مع الروس ولا مع الإيرانيين. ولعل ذلك هو سر تحققهم سياسياً واستراتيجياً كرقم صعب، لا يمكن تجاهله في معادلات الحرب والسلم الجارية بقوة في سورية خصوصاً في العامين الأخيرين: 2016 و2017.
ويأمل الأكراد أن يضغط الكرملين على الإيرانيين لينسحبوا من سورية، أو لحملهم على أقل تقدير على عدم الانتشار في الشمال ومساندة النظام هناك. كذلك هم يأملون أن يضغط على الأتراك ليقبلوا بالإدارة الكردية الذاتية على حدودهم مع سورية. غير أن هم السياسة الروسية في مكان آخر، هو جعل الأميركيين يغادرون سورية الشمالية بالكامل، ولا يبقون على أي نوع من أنواع المعسكرات لهم هناك.
وتظل السياسة الروسية كما السياسة الأميركية نصاً غامضاً ملتبساً على الجميع: الإيرانيين والأتراك والأكراد، ولو غدوا بعد طول حرب في العراق وسورية الرقم الصعب، خصوصاً وهو يغور إلى القعر في نص معادلات سياسية أميركية – روسية مزدوجة، نص ملتبس بامتياز.
* أستاذ في الجامعة اللبنانية