“الفوضى الخلاقة والشرق الأوسط الجديد”: مراجعة في فيلم أميركي طويل/ بقلم لؤي حسن

“الفوضى الخلاقة” الفيلم الأميركي الطويل الممتد على ما يزيد عن عقد ونصف هو لمن لا يعلم مصطلح أميركي بامتياز يعود لعام 1902، وأول ما استخدمه تايرماهان.

إستعادته أميركا على لسان كونداليزا رايس عام 2005 سبيلاً إلى “الشرق الأوسط الجديد” الذي تبتغيه، أي شرق أوسط بتكوينات بدائية طائفية أو اثنية.

كانت البروفا الأولى في العراق بعد احتلاله. فقد تعمدت أمريكا تدمير الدولة فيه تدميراً ممنهجاً، آملةَ أن يأكل العراق ذاته بذاته، وحيث الأثنيات والعشائر وتنظيم “القاعدة” الذي صنَّعته في القرن الماضي.

أول النتائج أن تداعيات الفوضى تحولت إلى عبءٍ على أميركا، فبات العراق ساحة للضغط عليها وليس العكس، وصندوقاً ترسل منه إيران رسائلها الدموية عبر مقاومة عراقية أمسكت آنذاك بمعظم خيوطها رغم تعدد هوياتها. تلاها انسحاب أمريكي بعد حربين على العراق كلفت امريكا مئات المليارات من الدولارات!

وثاني النتائج أن إيران غدت هي المنتصر الحقيقي، بعد أن بات من يحكمون العراق بين حليف لها أو صديق!

وثالث النتائج هو بروز “الحشد الشعبي” مؤخراً بحجمه العسكري الوازن وبحضوره السياسي والذي جاء عندما أرادت أمريكا إعادة خلط الأوراق بزج “داعش” في المشهد العراقي!

لنلاحظ كيف أن أميركا غدت أشبه بعربة غارقة في الطين تغطس في أو حاله اكثر فأكثر كلما ضغطت على (دواسة) البنزين !.

ثاني البروفات كانت في لبنان مع العدوان الإسرائيلي صيف 2006، يومها هتفت رايس منتشية “الآن بدأ الشرق الأوسط الجديد”، والنتيجة: إسرائيل طلبت وقف أطلاق النار بعد 33 يوماً من الحرب، ليتحول حزب الله وظيفياً من مقاومة إعتراضية في مكان محدد، إلى قوة زج إحتياطية على مستوى الاقليم. وهو ما عبر عنه السيد حسن نصرالله بقوله: “نكون حيث يجب أن نكون”.

ثالث البروفات كانت في سوريا وبصرف النظر عن تفاوت الآراء فيما شهده هذا البلد: “ربيع” هو أو “خريف”، فإن تدخل أمريكا وبالذات سفيرها روبرت فورد أثار الشبهات حول وجهة الحراك الذي شهده الشارع، ثم كانت ثالثة الأثافي زج حلفاء أميركا في سوريا أطرافا داعمة للمعارضة بالسلاح أو بالرجال، والنتيجة جاءت مؤذية لأمريكا ولحلفائها! كيف؟!

منذ عام 2006 تنامت العلاقات بين تركيا وسوريا إلى مستوى غير مسبوق منذ انهيار الدولة العثمانية القرن الماضي. تجارياً بلغ التبادل بينهما 2 مليار دولار عام 2010، مع طموح للوصول إلى 8 مليار دولار عام 2015، أمنياً وعسكرياً شارفت العلاقة بينهما درجة التحالف، حيث التنسيق الأمني في أوجه والمناورات العسكرية المشتركة بين الجيشين، وكله تحت سقف “المجلس الاستراتيجي السوري التركي” أمر لم يكن قائماً بنفس المستوى مع إيران برأي المراقبين، أو ربما بدت مرشحة كيفما تفوقها مع الزمن بحكم الجغرافيا والتاريخ.

أما العلاقة بين سوريا والسعودية فهي بغنى عن اي وصف يكفي أنهما شكلا إلى جانب مصر “الثلاثية العربية” أو ما عرف بـ”محور القاهرة الرياض دمشق” الذي أمسك بدفة العمل العربي على مدى عقود.

بين إغراءات أميركياً وضغوطاتها رمت تركيا بثقلها في الأزمة السورية، والحاصل خسرانها دورها كلاعب أساس في الحرب السورية بعد أن خسرت دورها كمستفيد أول أيام السلام السوري! والنتيجة كما نراها؛ إيران تستحوذ نفوذاً وحضوراً غير مسبوقين في المكان السوري وبقبول روسي، فيما تبحث تركيا على نقاط تجمعها في عفرين وإدلب لتجلس على طاولة التسوية يوماً ما، وهذا مرتهن حتماً بالفسحة التي تتيحها لها روسيا الرابح الأول في كل ما جرى ويجري حتى الآن.

ولعل هذا الانحياز الأميركي للأكراد بالرغم من تاريخ تركيا الأطلسي، أمر يثير شكوك خبراء في الستراتيجيا بأن تقسيم تركيا يقع في مندرجات “الشرق الأوسط الجديد” الذي تطلبه أميركا، وذلك لعدة إعتبارات جيو استراتيجية، منها أن دولة كردية شمالي سوريا والعراق وصولاً لوسط الأناضول زلزالاً له تداعياته على وحدة كل من إيران وروسيا، كما وتلامس وسط آسيا أو ما تُسمى بـ”أوراسيا” مفتاح آسيا، وهنا بيت القصيد في الاستراتيجية الأميركية للمائة سنة القادمة!

ولا شك أن تقسيم تركيا أمر مرغوب إسرائيلياً، وهي التي لا تطمئن لوجود دولة إسلامية قوية في المبدأ، فكيف تركيا المتحولة نحو الشرق وبنزعة عثمانية مع اردوغان، ولعل هذا يفسر وجود أصابع أميركية في الأنقلاب العسكري صيف 2016 على الرجل.

أما في الجزيرة العربية فلا غاية لأميركا فيها إلا أن تدفع دولها النفطية فاتورة إنتاج هذا الفيلم الأميركي، فاصطنعت لها فوبيا “الخطر الإيراني” وتهديده لأمن دول الخليج! .

والحقيقة أن من ثوابت السياسة الدولية بعد الحرب العالمية الثانية أن الساحل الغربي للخليج العربي هو خط أحمر انكلو- أميركي ثم أصبح بالتدريج أميركياً بالكامل، مزروعاً بقواعدها وتجول اساطيلها في مياهه، وهو بالتالي لايُمس ودونه حرب نووية إذا اقتضى الحال؛ حقيقة أدركها السوفيت واحترموها كذلك روسيا فيما بعد، وحكماً إيران بطبيعة الفهم، فضلاً عن موازين القوى.

لكن هذه الفوبيا هي وسيلة لشراء الأسلحة من أميركا وعين الأخيرة على الاحتياط النقدي السعودي الذي يأتي ترتيبه الرابع وقد بلغ 732 مليار دولار عام 2014 ليتراجع بعد سلسلة الحروب من سوريا فالعراق حتى اليمن إلى 487.6 مليار دولار ولا زال الحبل على الجرار حيث أبرمت السعودية صفقة أسلحة مع أمريكا بمبلغ 115 مليار دولار، وهذا الرقم سيزداد على مدى العشر سنوات القادمة إلى 365 مليار دولار بحسب الاتفاقات الموقعة بعد زيارة ترامب إلى الرياض!

بعد سلسلة الخيبات ومحدودية الإحتمالات، أميركا تهرب إلى الأمام، مواجهة الفوضى التي حرقت اصابع حلفائها وأصدقائها بالمزيد من الفوضى وتقديم أضحيات جديدة. لا شيء أكثر من هذا، أمر يذكرني بقول لعبد الناصر: “عبقريتكم أيها الأميركيين هو أنكم أبدا لا تتخذون خطوات غبية واضحة، بل تقومون بتحركات غبية معقدة مما يجعلنا نتساءل في إمكانية كوننا نسينا شيئا”.

(الأنباء)