موسى المعماري..غاب باني الحلم

عن عمر يناهز الـ87 عاماً توفي مبدع الفن المعماري، وصاحب الحلم الكبير، الذي  بنى قلعته من دون أي مساعدة، حجراً بحجر بيديه على مدى عقود، ليكون تحفة فنية ومعلما معماريا وسياحيا يزوره مئات الالوف من السياح.

moussa-castle-قلعة-موسى52741802-l

تعود أصول موسى المعماري إلى “حارة السرايا” المتاخمة لأسوار قلعة الحصن في محافظة حمص السورية. اشتهرت عائلته بتوارثها مهنة العمارة حتى اتخذت من المهنة اسماً لها. كان والده عبد الكريم المعماري، كثير الترحال، خصوصاً بين المناطق اللبنانية. عام 1931 ولد موسى في قرية الفاكهة قرب بعلبك. أخذت الأم ابنها إلى حارة السرايا لتسجّله في قيود العائلة فاستقرا فيها، وهناك تلقى تعليمه الأول في إحدى المدارس القريبة.

 

بعد سنوات، كان على الأم وابنها أن يلتحقا بمكان عمل الوالد في طرطوس، المدينة الساحلية، وتحديداً في مدرسة “المتنبي” التي سجّل بها، لتبدأ رحلة العمر.

أحبّ موسى إحدى زميلاته في المدرسة، كانت تُدعى “سيدة” وهي من عائلة مرموقة، كان والدها الذي يملك قصراً، حاكماً لإحدى نواحي المدينة. لم يفكّر العاشق في الفوارق الاجتماعية بينه وبين الفتاة. عندما أخبرها بحبه سخرت منه، وقالت الجملة التي حرّضته على تحقيق حلمه: “عندما تملك قصراً، يمكنك أن تتحدث إليّ”.

في إحدى حصص الرسم، طلب المعلم من تلامذته أن يرسموا عصفوراً على شجرة. لكنّ موسى لم يفعل، بل رسم القصر الذي وعد حبيبته به. استهجن الأستاذ فعلته، وسأله إن كان هذا القصر المتخيّل لأجداده. فأجابه بأننه رأى هذا القصر في الحلم، وأنه سيراه مبنياً في الواقع. ظن الأستاذ أنه يهزأ به، فانهال عليه ضربا بقضيب رمان، ثم مزق الرسم ورماه على الأرض. فجمع موسى القصاصات الممزقة وغادر متوعداً استاذه بتحقيق الحلم.

350936_01261042553

بعد أيام، اتخذ موسى قراراً مهمّاً غيّر مجريات حياته. تركَ المدرسة والبيت والمدينة من دون علم أحد. حمل معه خريطة قصره الممزقة، وخصلة من شعر الحبيبة، وسار مشياً على الأقدام من طرطوس إلى صيدا. كان ذلك في أيار 1945 ولم يكن يشغل خياله في تلك الرحلة سوى الفتاة والقصر.

وصل الى صيدا، بعد رحلة متعبة عرف فيها أشد أنواع الألم والفقر والجوع. وهناك استقبله عمّه عيسى المعماري الذي كان يعمل في ترميم قلعة المدينة البحرية. ضمّه العمّ إلى فريق الترميم، واستمرّت به الحال سنوات عدة. خلال هذه المدة، صار الفتى محترفاً في ترميم المباني الأثرية، ما أهّله للتنقل بين المتاحف والقصور. وإلى جانب مدخوله من الوظيفة التي حصل عليها في شركة الكهرباء، استطاع ان يجمع 15 ألف ليرة لبنانية في ذلك الوقت، وبهذا المبلغ تزوج ماريا عيد إبنة قائمقام دير القمر واشترى قطعة أرض تبلغ ثمانية دونمات، في حين بقيت لديه خمسة آلاف: كان المبلغ هذا رأس ماله لتحقيق حلم العمر.

350936_01261043145

في العام 1962، بدأ موسى تنفيذ مشروعه. حمل المعماري حجارة القصر على ظهره، وقد تجاوز وزن بعضها 150 كيلوغراماً. ويروي انه حمل 6540 حجراً ضخماً إلى موقع البناء، ما تسبب له بترقق في العظام بقي يعاني منه الى آخر حياته، كما تسبب عمله في تقصيب الحجارة بإطالة يده اليمنى سنتيمترين. بعد أربع سنوات من العمل الدؤوب، وبمشاركة زوجته، صار بإمكانه استقبال بعض الزوار الذين بدأ يلفتهم قيام هذه الحجارة المنحوتة والأبراج. كان الرئيس كميل شمعون الذي أتى مع زوجته السيدة زلفا من أول الزوار، وساعده في الحصول على قرض طويل الأمد (60 ألف ليرة) من بنك التسليف الزراعي بفائدة ضئيلة، بعدما أهداه الجنسية اللبنانية. وكان حينها وزيراً للداخلية.

350936_21261043145

ومن الزوّار المعروفين أيضاً، كان المعلم الشهيد كمال جنبلاط الذي ساعده في الحصول على مبلغ عشرة آلاف ليرة لبنانية. وهذه المساعدات، إلى جانب “رسوم دخول القصر”، وبيع الأشغال اليدوية التي كان يصنعها هو وزوجته، مكّنت موسى المعماري من وضع حلمه قيد التنفيذ، ليستقبل الزوار والسائحين رسمياً في العام 1967. بعد هذا التاريخ، بدأ المعماري بصنع المجسّمات والأدوات المتحركة التي تنتشر في غرف القصر وطبقاته الثلاث. فنحتَ وجسّد 75 شخصية، هم أفراد عائلته وأقرباؤه وجميع الفلاحين الذين آزروه في بناء القصر. أناط بكل شخصية حرفة، ليصبح القصر أشبه بمجتمع مكتمل الأركان. ولم ينسَ موسى الحدث الهام الذي دفعه إلى تحقيق حلمه فيقول : “ذهبت إلى سوريا وأحضرت مقاعد الصف والسبورة (اللوح الخشبي) وجسّدت مشهد الأستاذ “أنور” وهو يضربني أمام الطلاب”.

 

كما لم ينسَ حبيبته الأولى فكان يبحث عن “سيدة” منذ أول حجر وضعه في أساسات القصر، وبعد سنوات طويلة من البحث عنها، وجدها في بروكلين في نيويورك. فإتفق مع إبنة عمّه هناك، لتدعوها إلى زيارة لبنان والقصر من دون أن تخبرها أنّ هذا القصر هو الذي وعدها به.

جاءت “سيدة” إلى لبنان عام 2009، وكان القصر على خريطة زياراتها. ويروي موسى: “كنت أحرص على أن تدخل من الباب المنخفض، أردت أن تركع أمامي، مثلما ركعت يوم ضربني المعلم لأنني حاولت تقبيلها. عندما وصلت “سيدة” ورأت الرجل العجوز قرب القصر، سألت: أنت موسى المعماري؟ قبل أن تدمع عيناها بعد 67 عاماً من الفراق.

0x0-ottoman-history-brought-to-life-at-vienna-war-museum-1506172077534

على مدى عقود وسنوات تابع موسى افتتاح الاجنحة والاقسام في قصره، وافتتح قبل سنوات المرحلة الأخيرة منه، والثانية من متحفه الحربي والتراثي بعدما كان قد دشنه عام 1997. وإختار التاسع من أيار ذكرى قدومه الى لبنان عام 1945 تاريخاً لبدء رحلته لتحقيق حلم القصر.

يضم المتحف أكثر من 32 ألف قطعة سلاح من مختلف العصور ومعادن وحجارة ثمينة وأساور وألبسة وغيرها، وأنفق كل ما ادخره من أموال في سبيل إيجاد هذا المتحف المرخص.

maxresdefault

في مقابلة صحفية يقول موسى المعماري: أنا راحل غداً والقصر باق. قد يستفيد منه أولادي، لكنه لن يكون لهم، سيبقى معلماً لبنانياً، شاء من شاء وأبى من أبى.

 

(الأنباء)