عن نبوءة كمال جنبلاط والمؤامرة المستمرة في ظل التسويات

د. قصي الحسين

بعدما تولى رونالد ريغن منصب رئيس الولايات المتحدة الأميركية في العام 1981، سارع إلى تصعيد المواجهة مع الاتحاد السوفياتي، واستأنف سباق التسلح ووجدت إسرائيل ضرورة استباق قيام حركة وطنية فلسطينية في الأراضي الفلسطينية تطالب بالتحرر من الاحتلال عبر توجيه ضربة للمقاومة الفلسطينية في لبنان. وبدا الوضع مناسباً لها في العام 1982، إذ شجعت الإدارة الأميركية الجديدة في ظل ريغان قلب الأوضاع في المنطقة، على الرغم من الحديث الذي كان دائراً بين السوفيات والأميركيين عن هدنة سابقة إزاء الأزمة في افغانستان وبولندا والسماح بتوقيع معاهدة الصداقة مع سورية، فيما بعد.

362446_0

وروج الإسرائيليون لحملة على الفلسطينيين في (الضفة والقطاع – بعد 1967)، لما قالوا به عن تفادي اندلاع انتفاضة فلسطينية في لبنان، على الرغم من مقولات التهدئة في العلن، وإشعال الحرب كضربة استباقية لا تحرج التسويات، بل تبرر فرض رئيس على لبنان يساهم بكسر العزل العربيّة عن إسرائيل وتشجيع تطبيق العلاقات معها.

والواقع أن كمال جنبلاط كان قد تنبأ بالتلازم بين الصعود الأميركي والتصعيد الإسرائيلي. الصعود الأميركي للحديث عن التسويات مع الآخر في روسيا والشرقين الأوسط والأقصى، والتصعيد الإسرائيلي في المنطقة العربيّة ومع الفلسطينيين في أراضي العام 67 والشتات خصوصاً في لبنان وسوريا. ونحن ها هنا إنما نستشهد بهذه النبوءة الجنبلاطية، حتّى لا يعولن منا أحد على التسويات الدائرة اليوم بين الأميركيين والروس، خصوصاً في مرحلتي الرئيسين الأميركي أوباما السابق وترامب اللاحق. حيث يقول كمال جنبلاط تحت عنوان: “المؤامرة مستمرة في ظل التسوية” في كتابه: “لبنان وحرب التسوية”، (ص 145):

كمال جنبلاط

“في ظل ما جرى في لبنان منذ عشرة أشهر، وفي ستار الأحداث الدامية – وكأنها كانت تفتعل لتغطية أحداث لها خطرها الأشد والأدهى على الصعيد العربيّ والدولي – كانت تصمم وتخطط وتهيأ اتجاهات وأعمال تستهدف تطويق الثورة الفلسطينية ومحاصرتها، والاتفاق على البديل لها في تحقيق فك الارتباط، والهيمنة على الضفة الشرقية لأرض فلسطين الشرقية في حال تراجع الصهاينة عن احتلالها وعن جزء منها، وهو الأرجح، ثم ربط هذا الكيان الجديد الفلسطيني المستحدث بالتزام اتحادي فدرالي أو كونفدرالي بالأردن الهاشمي. وكأننا عدنا على البدء، ولكن بشكل آخر وضمن نطاق أوسع من الاحتواء. إذ إن المشروع الجديد يستهدف “ضبط” الدولة الفلسطينية الناشئة واستيعابها ضمن كينونة فدرالية أو كونفدرالية أوسع.

ونحن نرى إذن، بناءً لنبوءة المعلم كمال جنبلاط التاريخيّة، أنه في ظل التسوية بين الأميركيين والسوفيات، اجتاحت إسرائيل في 6 حزيران 1982 لبنان. وبعد ثلاثة أيام هاجمت المواقع السورية. وفي خلال يومين، فقد السوريون أكثر من 80 قاذفة مقاتلة ونحو 25 صاروخ سام المضاد للطائرات. ثم تم لها تحقيق أهدافها بانسحاب منظمة التحرير من لبنان ووقوع مجازر صبرا وشاتيلا، فقدم وزير الدفاع الأميركي الكسندر هيغ استقالته ثمناً وتبريراً للتسوية المنتهكة.

وفي العام 1991، انطلقت مفاوضات السلام بين العرب والإسرائيليين في مدريد في ظل تسوية أميركية/ روسية، فكان سلام في أوسلو 1992 وكان سلام في عمان 1994. غير أنه تحت دخان هذه التسويات الضالة والمضللة بين الأقطاب وبين الأطراف، قامت إسرائيل بعدوانين على لبنان في عام 1993 وعام 1996.

مفاوضات السلام بين العرب والإسرائيليين في مدريد

وبعد حرب الخليج الأولى والثانية، بدأ الانهماك الأميركي بعراق صدام حسين والإنهمام بإخراجه من السلطة، ومهادنة العرب جميعاً، حتّى يصطفوا خلف الحملة الأميركية في تسوية تاريخية غير معهودة استثنت منها ياسر عرفات الزعيم الفلسطيني، فكان قد تم غزو العراق واحتلال بغداد واختباء صدام حسين في العام 2003 ومن ثم  العثور عليه وشنقه صبيحة يوم عيد الأضحى. وتحت دخان هذه التسوية المموهة بدقة وشطارة لا توصف، تم الغدر بلبنان. وكان الاجتياح التاريخي له هذه المرة براً وجواً في العام 2006 مما مهد لتاريخ لبنان الجديد بظهور سلاح حزب الله وحيداً على لبنان خلف الليطاني علناً، واخفاءه سراً جنوب الليطاني.

صدام-حسين-باللبس-العسكري-وسط-جنوده

ومع وصول باراك أوباما خلفاً لجورج بوش الأب والابن أصحاب اجتياح العراق وعدوان تموز 2006 على لبنان، ساد اعتقاد أن التسوية الأميركية/ الروسية على المفاعل النووي الإيراني وعلى الكيميائي السوري، سوف يجلب الأمن للعرب والفلسطينيين ولبلدان الربيع العربيّ، خصوصاً بعد الأعوام (2010/ 2015).

بوش اوباما

غير أن إسرائيل كانت تعمل تحت دخان هذه التسويات العالمية، على الضرب في الأراضي العربيّة والأراضي الفلسطينية. يؤكد لنا ذلك ما نشره المستشار السابق للأمن القومي الأميركي “زبيغنيو بريحنسكي” في كتابه “رؤية استراتيجية” والذي نشره عام 2011، حيث يرى فيه أن الولايات المتحدة لم تعد قادرة لوحدها على قيادة العالم وأن عليها أن تقيم غرباً أكبر يكون بقيادتها ويضم أوروبا وروسيا وتركيا، مشيراً إلى أن الولايات المتحدة أخطأت بغزو العراق ما أدى إلى الأزمة المالية في الولايات المتحدة بين عام 2008 و2009، وأن هذه الأزمة “مزقت الثقة العالمية بقدرة الولايات المتحدة” (ص 52- 55). ويعتقد بريجنسكي أن شرق آسيا وجنوب آسيا ستصبحان المنطقتين الأكثر عرضة للنـزاعات الدولية في عالم ما بعد أميركا (ص 81).

ترامب

تحت هذا الدخان الأميركي جاءت التسوية بين الأميركيين والروس بتنصيب دونالد ترامب رئيساً على الولايات المتحدة الأميركية في 20/1/2017. وبعدها مباشرة عقدت القمة بين نتانياهو وترامب. وأعلن الأخير عن إمكانية حل الصراع بين الفلسطينيين والإسرائيليين وفقاً لمبدأ الدولة الواحدة. وتراجعت نسب التفاؤل بحل الصراع العربيّ الإسرائيلي في ظل التسوية بين القطبين. وتخلت إسرائيل ومعها أميركا عن التعهدات الأميركية المتعاقبة منذ تسعينات القرن الماضي. وكان تصريح الرئيس الأميركي دونالد ترامب عن نقل السفارة الأميركية إلى القدس المحتلة، مؤشراً، إلى تراجع أميركا عن وعودها الفلسطينية، وعلى اعتبار قرارها تاريخي للسلام بين إسرائيل والفلسطينيين وأن على أميركا بناء للتسوية مع الروس، الاشتغال على الخطر الإيراني ومنعه من خلال الملف النووي، وأن على الرئيس ترامب تبني وجهة النظر الإسرائيلية للحل مع الفلسطينيين “وكأننا عدنا على بدء”، نقول اليوم بلسان كمال جنبلاط، تحت وهم دخان التسويات.

* أستاذ في الجامعة اللبنانية

اقرأ أيضاً بقلم د. قصي الحسين

كمال جنبلاط البيئي وإلتقاط البرهة!

مجتمع البستنة

الدكتور اسكندر بشير التجربة والرؤيا الإدارية

 ساق الحرب

جائزة إدلب

جميل ملاعب والقدس: تأبيد الرؤيويات البصرية

جسر السلام: ثوابت كمال جنبلاط الفلسطينية التاريخيّة

القتل السري عن كمال جنبلاط والقتل السياسي

حين السياسة بمفعول رجعي

ترامب والتربح من الصفقات

عن النظام يأكل أبناءه الفوعة وكفريا نموذجاً

مصطفى فروخ وطريقه إلى الفن

 الرئيس القوي

 د. حسين كنعان وأركيولوجيا القيافة والثقافة والسياسة

 ضياء تلك الأيام

 عن كمال جنبلاط والفرح بالعمل

 تتجير السلطة

تيمور جنبلاط بصحبة والده في السعودية زيارة تاريخية إحيائية

 كوفية تيمور ومليونية القدس وجه آخر للاضطهاد والإحتلال

تجديد “نسب الخيل لابن الكلبي” ونسخ لمخطوطاته التراثية الثلاث