قدرة إقتصادنا المحلي!/ د.وليد أبو خير

 

مما لا يقبل الجدل أن إقتصادنا يبحر في خضم لعبة التوازن السياسي سواء لناحية توزين الإيرادات الناتجة عن أنشطة القطاعات الإقتصادية، أو لناحية توزين الإنفاقات وما أكثرها.

ولا نغالي بالقول، إن الدلائل عامرة من أن جذور عمادة إقتصادنا على درجة من المتانة على الرغم من تشوهات النظام الرأسمالي الليبرالي الحر الذي يعتمره لبنان أساسًا ومنهاجًا. فالأحداث التي مرّت على وطننا أكّدت باليقين صلابة البنية الإقتصادية والمالية المصرفية، والتي إستطاعت المحافظة على إستمرارية هذه القدرة. لكن ما وجب طرحه هو، هل ستبقى هذه القدرة على إستمراريتها؟ لهذا، فلنقف في قراءة موجزة على المفاصل التي تدلّل وبموضوعيتها على حجم الأعباء التي يرزح تحت حملها إقتصادنا، وبالتالي فإنها كافية لتذويب قدرته ومقدرته على الصمود، وهي التالية:

أولها: إن الفساد المستشري في جوانب القطاع العام والدعوات المتكررة إلى خصخصته رغم بُعدها كل البعد عن أنظمة الحوكمة، حيث من الملاحظ أنه لا يزال صامدًا أمام عتوّة العواصف السياسية التي تحيط به، وكأن في ذلك محاولة لعدم إفلات هذا القطاع العام من قبضة القابضين على مقود السياسة والإقتصاد في البلد، ليبقى هذا الإقتصاد العمومي المخزن أو المصرف الرهين الذي تُمرر من خلاله جداول الإنفاقات الإدارية. فمن وجهة الرأي الذين يدّعون شوقهم إلى الخصخصة حيث ينطبق عليهم أنهم “يريدونها ولا يريدونها في الوقت عينه”، لتأتي النوايا صادقة من وجهة الرأي الذين لا يريدونها حقًا حيث يقفون على نتائجها فيما لو حصلت نظرًا لتشكيكهم في تطبيقاتها وفي حوكمتها.

ثانيها: إن المشهد في الحاضر دالٌ على المشاهد للماضي، إن في تركيبة التعيينات في إدارات الدولة الرسمية الإجتماعية والإقتصادية، ليخال أنها “حفر وتنزيل”، أو في “طوأفة” البلوكات النفطية والتي تأتي على مقاس الطوائف والمذاهب والزعامات، والتي تؤلّف جزءًا كبيرًا منها التقسيمات والتوزيعات الإنفاقية. وكعيّنة ماثلة للعيان على سبيل الإستئناس لا الحصر: ملف الطاقة ونفقاته غير المباشرة.

فالإلتباس ليس في إقتصادنا، بل بمن يمسكون مقوده، لتلتمع في عقولنا مقولة الإسكندر حينما ردّد أنه “لا يخاف جيشًا من الأسود يقوده خروف، بل يخاف جيشًا من الخرفان يقوده أسد”.

ثالثها: يشهد الإقتصاد اللبناني في الحاضر تضييقات في وجه تقدّمه أوصدت أبواب تصريف المنتجات ومحاصرتها برًا جرّاء الحروب الحدودية، في حين سيشهد تقويض لأنشطة إقتصادية عدّة ومنها السياحية جراء الصراعات الناعمة الباردة بين قطبي القرار المملكة العربية السعودية والجمهورية الإسلامية الإيرانية والتي تدور فصولها على مسرح الساحة المحلية، وما قد ينتج عنها من ضياع لواردات تنعش إقتصادنا، والتي في ضياعها إنما تؤثر على تسارع النمو في حجم الدَين العام وخدمته بحيث تقع مفاعيل توزيعها على رقبة المواطن اللبناني وحده. فماذا لو بدأنا بتطبيق المشروعات النفطية؟ مما يحتّم ومن الوجهة الإستثمارية زيادة منسوب المديونية العامة.

رابعها: إن السرد التاريخي لوقائع الأحداث أثبتت وبلا مشاحة عن مدى تأثيرات السياسة العثمانية على مسرى حياة الشعوب خصوصًا على حياتها الإقتصادية والتي أخذت من نصب الأفخاخ منافذ لكسب المال والذهب، وإقتسام المنافع الإقتصادية ووضع اليد على مرافقها في ظل نظام الإمتيازات.

إن الإبقاء على التحجّر في مراعاة نظام الإمتياز السياسي الطائفي في بلدنا، كما وعلى توزيع منافذ السلطة على الطوائف، ما يسهم في إستمرار عامل التخلف الإقتصادي في وجهته المستقبلية، وبالتالي يقوّض كل مشروع تطويري وتحديثي لإقتصادنا وحصره في هذا النظام الإمتيازي وتقوقعه في تسييس الإقتصاد على نحوٍ طائفي. وفي هذا ما يؤشر إلى جملة مركّبات لعقدة النقص في الذهنية السياسية اللبنانية التي “عثمنتها” سياسات العهد البالي ومن بعدها نظامي القائمقاميتين والمتصرفية. وفي هذا نذير الوقوف وبإستعداد نحو حقبات متتالية من الصراعات إن لم نقل حروبًا أهلية تتجدّد مع تقدّم المراحل ومدى بسط آثارها على الإقتصاد.

فالقول من أن الإقتصاد يُبنى على السياسة، هو قول يجانب الحقيقة. ذلك أن الإقتصاد إنما يتأثر تأثرًا صريحًا وواقعيًا بالسياسة العامة المنتهجة في لبنان والذي يدار محرك الإقتصاد بمفتاح السياسة.

 

ولا ندعي في سبيل ذلك حلولًا، إنما ما يشير إلى ذلك سبيلا، خصوصًا وإن مقومات ومعايير الإقتصادات الصحيحة حاضرة أمام أعين من يريد أن يرى، والتي تتجسّد في مواقف رجالات كُثر معظمهم مضوا عن هذه الحياة تاركين إرثًا لأسسٍ إقتصادية ليست بنظريات ولا بأيديولوجيات وحسب، وآخرون لا يزالون على مركب هذه الدنيا وفي مُدام أقلامهم قواعد لصلاح الإقتصاد.

فإذا تجمّعت هذه الموروثات مع الحداثة منها ومزجها بخلطةٍ تطويرية رشيدة ومعمّقة، بحسبنا أننا نصل إلى مقومات قواعدية للسير في ركب إقتصاد رشيد.

 

لدى الشعب اللبناني أسئلة كثيرة يطرحها ويريد إجاباتٍ واضحة وصريحة عليها حول مصير ومسار إقتصاد وطنه. ذلك أن المعوقات والتحديات التي وُضعت أمامه هي تحديات تطال مُعاش هذا الشعب وقوْته، كما هي معوقات تكبح جماح طموحات وتطلعات شباب لبنان.

وفي الختام، لنا أن نسأل: هل لهذا الإقتصاد من قدرة ومقدرة على الإحتمال؟

 

*باحث إقتصادي وخبير في قانون المحاسبة لدى المحاكم التجارية