مئويّة كمال جنبلاط

رشيد درباس (النهار)

“فلا نزلت عليَّ ولا بأرضي

سحائبُ… ليس تَنتَظِمُ البلادا” (أبو العلاء)

آن لكمال جنبلاط، في مئويته أن نبتعد به قليلاً عن السياسة، لنذهب إلى روحه العظيمة؛ و”الروح العظيمة” أو “مهاتما” لقب غاندي الذي كانت له فيه أسوة من الصبر، وقهر الذات، والصلابة التي لم يفتَّ فيها وهن العظام.

أوجه شبهه مع المهاتما، تتعدى الشكل إلى الجوهر، وهو الذي كان يرى في رحلاته الهندية ريفاً روحانياً وريفاً، بل مطهراً يلوذ به كلما علقت أوساخ السياسة بحذائه.

نعود إلى ما قبل قرن، يوم ولد طفل عُلِّقَ قدره في عنقه، زعيماً عتيداً لطائفة تليدة، يُرْسَلُ في يفاعته تلميذاً داخلياً إلى عينطورة، فيتلقى العلوم ومبادىء المسيحية، فيبحر في تعاليمها، وينشىء مع رهبانها صداقات فكرية وروحانية، كتلك التي عقدها مع المطران غريغوار حداد والأب يواكيم مبارك والمونسنيور يوحنا مارون وغيرهم .

ألزمته مسؤولياته الانخراط في اليومي، لكن فكره تخطى صغائر المناورات، وتفاهة المماحكات، وقصر نظر موصوفًا وسم كثيرًا من الساسة الذين زاد عددهم وقلت بصائرهم إلى ما هو أقصر من آنافهم.

كان يروض جسده النحيل على نبذ أطعمة التخمة، فجعل النبات غذاءه، واتخذ من القمح ربيباً وَمُرَبِّياً، ومن فِراشه الأرضي الرقيق منامه الوثير، فالنوم عنده ليس راحة الجُنوب في المضاجع، بل تأمل عميق بريء من صحو الحياة، وليس عنده، كمغالبة الجسد ، وسيلة أجدى من إطلاق الروح إلى كل الاتجاهات، وليس كالقمر الذي ” دار واستدار فوق دير القمر”، ضوءٌ متواضعٌ، يدخل إلى النفوس الطيبة، فينيرها هادئاً، متواصلاً مع أنوار التصوف، ومناجاة الإمام الغزالي، التي كانت “تنقذه من الضلال”.

دخل السياسة وريثاً جديراً بإرث عريق، ومالكاً عقارياً، وساكناً قصراً انتقل إليه من عائلته المختارة، ولكنه تعمق في إنسانية القس المسيحي تيار دو شاردان، وتعاطف مع فقراء العالم، وأنشأ حزبه التقدمي الاشتراكي مع مجموعة تأسيسية هي علامة في التنوع والرقي، على رأسها، الشيخ عبدالله العلايلي، والعلامة فؤاد رزق، والنائب فريد جبران، وجميل صوايا، فخاطب الوطن إذذاك بلغات من طوائفه ومذاهبه، منسلخة عن التقوقع والتعصب، وعن النَّفَس الإقطاعي والرأسمالي، إلى رحاب الانسانية والنهوض والتقدم، وكأنه كان يقدم أوراق اعتماد الحزب للكرة الارضية، بريشة ومعول، هي الشعار الذي رسمه وسار تحت رايته التي كفَّنَت مع العلم اللبناني جثمانه المضرج بدماء الوطن.

كان هاوياً للكيمياء فتعلم منها دقة المعادلات، وشُغِفَ باللغة الفرنسية، فأودعها تأملاته الصوفية، وضبط لسانه على لغة القرآن، وهام بأبي العلاء، “زوبعة الدهور”، كما سماه مارون عبود، الذي بوَّأ الفلسفة مقاماً شعرياً عالياً، وقدم العقل على ما سواه في إطار من المشاعر الإنسانية الشفافة.

لبناني مخلص آمن بفرادة لبنان ودوره العربي، وتواصل مع عبد الناصر وكان له أخاً في النضال والعلمانية، وأقام مع الأنظمة العربية جسوراً، كان بعضها وطيداً، وبعضها خدعة تستدرج إلى وادٍ سحيق؛ وبهذه المثابة يروي لي صديقي العتيق توفيق سلطان أنه عندما كان في الوفد الذي زار الرئيس حافط الأسد بعد الحركة التصحيحة، اعترض كمال جنبلاط على بند في البيان المشترك يشيد بتلك الحركة قائلاً للرئيس: ” لقد عاملنا أسلافكم بكثير من الشرف والوطنية، ونحن لسنا على استعداد للتنديد بهم”، فابتسم الأسد وقبل بشطب العبارة. كما روى أيضاً أنه قال للأسد: “يا سيادة الرئيس إن لبنان ليس على استعداد للدخول في قفصكم الذهبي الكبير”.

وإذا كان الشيء بالشيء يذكر، فإنني بالأمس، في الندوة التي أقيمت ضمن نشاطات معرض الكتاب العربي، أثناء مناقشة كتاب حسن الرفاعي “حارس الجمهورية” الصادر عن دار “سائر المشرق” نوَّهتُ بما شهد به الأستاذ حسن للشهيد رشيد كرامي حين قال للرئيس الأسد: “لبنان آخر بلد عربي يدخل دولة الوحدة”.

ومما يحكيه السلطان أيضاً، أن كمال بك عندما لمس غض نظر من الاتحاد السوفياتي عن التدخل السوري في لبنان، راح يقول: “لهم عندي وسام لينين الذي منحوني إياه، وأنا على أتم استعداد لإعادته إليهم”، وكان ذلك بسبب المرارة التي استشعرها عندما أدارت له صداقاتُه الدولية ظهرَ التجاهل؛ ثم كان ما كان مما يذكره الجميع، فالتحق كمال بك بالروح العظيمة، ودخل وجدان الوطن والإنسانية.

لقد ناصر القضية الفلسطينية حتى العظم، وكابد منها ما كابد، وامتلأ قلبه بالأسى عندما تحول حلفاؤه إلى مشاهدين للفصل الأخير من المسيرة، حيث صار أعزلَ من حماية مؤيدين كانوا يملأون الأرض، لكنهم اختفوا في لحظة المصير الذي كان يعرفه مسبقاً، واختاره مسبقاً، وأعفى حلفاءه مسبقاً من تبعات حلفهم…

كثير مما أعرفه عنه اتصل بي من أصدقاءَ أجلاء، أولهم الأستاذ جان عبيد الذي كلما تحدث عنه غشيَتْ عينيه دمعتان من وفاء وعاطفة. كذلك تعلو شفتيه ابتسامة حزينة إذا ما روى نادرة بطلها الشيخ عارف يحيى رحمه الله الذي كان يجهر بحبه لكمال بك فيقول: “أحبك وسع الاطلنتيك”.

وكثير مما لا أعرفه بادٍ في قوام السنبلة واستدارة القمر فوق دير القمر.

كمال جنبلاط… السلام عليك.

وزير ونقيب للمحامين في طرابلس سابقاً.

*وزير لبناني سابق