مائة وجه لمائة عام عن سرير هزّ العالم

د. قصي الحسين

ما أن أنحو نحوه، هذا الوادي المسحور الذي ولد في قلبه كمال جنبلاط، ذات ليلة بيضاء، الواقع فيها السادس من كانون الأوّل العام 1917. إنحاء خطوط في مصورات، أم قمم محدبة يرتقيها في الأمسيات الضباب، يحتشد فوق ساحاتها وأيكاتها وجلولها وقناطرها وعمائرها الدهرية وأشجارها الصنوبرية قطعان السحاب الأسحم الداني والداجي، حتّى لكأن الناس من أنس وجن، يحسون جميعاً بل يرجون، في تلك الليلة مما ينتشي به الفؤاد، في وادي الخيلاء والخيال وعلى آماد الآمال وأجنحة الأرز والبطم، تحت شير بطمة في المختارة حيث ولد الجمال الكمال.

في قلب ذا الوادي، يقول كمال أبو مصلح: “ولد كمال جنبلاط. ومن تامور ذا القلب اغتذى. وعلى صدر ذا الوادي درج. وعلى خفق صدره وقع خطوه. وفي حضن ذا الوادي استراح. وبأنفاسه استدفأ. وبسحر ذات الوادي جبل حسه. وعلى روعته انفتحت وانطبقت، بل ارتسمت فوق مقلاته الأهداب” (كمال جنبلاط، ص 157). فلا يسألن أحد بعد اليوم، يقول: لِمَ وُلد كمال جنبلاط شاعراً. بل لِما ولد ذواقة فن. بل لِمَ ولد صخرة مركوزة، تهزها الريح كل يوم ولا تستريح وتخلخل مفارزها في سرير المختارة آن هزته بيمناها، فهز العالم بيسراه.

ففي المختارة عروس الوادي الأشهب والأهيب تحت أرز الشوف، كان قصر عرس المجد الدائم المورق بأنفاس التاريخ، يخضل ويتبرعم عن بدر التمام والكمال. وجه من نور وجلال تقول الجديد يداه. يحركهما جناحين صغيرين لروح عظيمة، يقفز بهما عن الشفا، ليحط على صدر لبنان، ويرسم بعينيه المشقوقتين كالنيرين لوح الزمان في صفحة غب غسق طويل، من بيان.

كمال جنبلاط

سرير احتفت به الرواسي ليلة السادس من كانون. فرجّت بين الشعب والمسالك فاتكأ إلى الحائط الجبلي الكليل يدفعه بالراح ويخترق بحجاه الحواجز بالكشف، فيخترق غلظ الصخور والحجارة والجبال، وينفس من بوحه ثواني الزمان، وينقش على الجدر بالماء بين فرج الوادي وقناة القصر، أناة المختارة والصبر على عزائم الدهر، وينشق من أعماقه شوق إلى الذرى والتخفف في الصعود إلى المعاني تياهة في السماء.

بين السادس من كانون الأوّل العام 1917 والسادس من كانون الأوّل العام 2017، مائة وجه لمائة عام. سرير دهدهته المختارة بيمناها، فهز العالم بيسراه. وفي المختارة قلب الشوف المتواضع وتحت أرزه، أمضى كمال جنبلاط طفولته الأولى قارئاً بكفيه علوم العرفان. ودخل العام 1927 مدرسة عينطورة بكسروان فاستتمت لديه علوم الحياة والإنسان، فغادر في العام 1937 إلى السوربون ليقرأ في مدينة النور بباريس ثورة الأنوار في العصر الحديث، وليحصد الشهادتين في العلوم الاجتماعيّة بعامين فقط متتاليين. فيعود إلى بيروت ويلتحق بكلية الحقوق في جامعة القديس يوسف ويحصد بألمعية بارزة إجازة الحقوق ويتدرج في مكتب المحامي كميل إده لعام واحد فقط، ثم ينتخب في العام 1943، نائباً عن جبل لبنان. فيكون بذلك نائب الربيع كما أسماه د. خليل أحمد خليل في ذلك العام، ثم وزير الربيع في العام 1947.

المعلم كمال جنبلاط

في تقديمه لكتاب “مختارات” يتابع د. خليل فيقول: “بين الانتداب وجلاء الجيوش الأجنبية عام 1946، خاص كمال جنبلاط نضالاته الأولى في سبيل إصلاح النظام السياسي نحو العدالة والديمقراطية. وفي العام 1948 اقترن اسمه بالآنسة مي شكيب ارسلان، فكان الوليد: الوليد القائد اليوم، وليد بك جنبلاط! ثم أعلن في الأول من أيار 1948، تأسيس الحزب التقدمي الاشتراكي. وفي العام 1951 أسس جبهة المعارضة “الجبهة الاشتراكية الوطنية” فواصل نضاله الأبيض على رأسها حتّى استقالة رئيس الجمهورية الشيخ بشارة الخوري في أيلول العام 1952.

تابع كمال جنبلاط المعارضة الشعبية العنيدة، فكانت الجبهة الشعبية الاشتراكية العام 1953. وكان المؤتمر الوطني للأحزاب والهيئات العام 1954. ووقف ضد العدوان الثلاثي إلى جانب مصر عبد الناصر سنة 1956. ثم كانت الثورة الوطنية بين عامي 1957 و1958. وفي العام 1960 دخل المجلس النيابي على رأس كتلة برلمانية من 11 نائباً عرفت بجبهة النضال الوطني.

كمال جنبلاط احتفال للحزب

وفي العام 1965، كانت تجربته في جبهة الأحزاب والقوى التقدمية. واشترك في الهيئات العربيّة والدولية، مثل مؤتمر التضامن الآسيوي الإفريقي في الجزائر ومؤتمر الخرطوم، واتحاد كتاب آسيا وإفريقيا.

وحين قامت في لبنان اللجان والهيئات المساندة للعمل الفدائي تشكلت منذ العام 1968 الانعطافة التاريخيّة لمساندة الثورة الفلسطينية، فانتخب سرير المختارة بل سرير لبنان أميناً عاماً للجبهة العربيّة المشاركة في الثورة الفلسطينية، فكان مثال القائد العظيم للحركة الوطنية. وأسندت إليه رئاسة المجلس السياسي المركزي للأحزاب والقوى التقدمية والوطنية حتّى يوم استشهاده في السادس عشر من آذار العام 1977 الذي هز سرير شهادته لبنان والعالم العربيّ والإسلامي بل العالم أجمع.

*أستاذ في الجامعة اللبنانية

اقرأ أيضاً بقلم د. قصي الحسين

كمال جنبلاط البيئي وإلتقاط البرهة!

مجتمع البستنة

الدكتور اسكندر بشير التجربة والرؤيا الإدارية

 ساق الحرب

جائزة إدلب

جميل ملاعب والقدس: تأبيد الرؤيويات البصرية

جسر السلام: ثوابت كمال جنبلاط الفلسطينية التاريخيّة

القتل السري عن كمال جنبلاط والقتل السياسي

حين السياسة بمفعول رجعي

ترامب والتربح من الصفقات

عن النظام يأكل أبناءه الفوعة وكفريا نموذجاً

مصطفى فروخ وطريقه إلى الفن

 الرئيس القوي

 د. حسين كنعان وأركيولوجيا القيافة والثقافة والسياسة

 ضياء تلك الأيام

 عن كمال جنبلاط والفرح بالعمل

 تتجير السلطة

تيمور جنبلاط بصحبة والده في السعودية زيارة تاريخية إحيائية

 كوفية تيمور ومليونية القدس وجه آخر للاضطهاد والإحتلال

تجديد “نسب الخيل لابن الكلبي” ونسخ لمخطوطاته التراثية الثلاث