أبعاد إسرائيلية وتركية في زيارة بوتين إيران

في زيارة الرئيس الروسي فلاديمير بوتين الخاطفة طهران، أثار الإيرانيون المسألة الأميركية، ليس في سياق محاولة واشنطن عرقلة الاتفاق النووي فحسب (لا تباين بين الموقفين الايراني والروسي في الملف النووي بل ان موقف موسكو من الاتفاق النووي مشابه لموقف الإيرانيين والأوروبيين). وما تريده طهران هو حمل موسكو على خوض مواجهة مشتركة ضد واشنطن. وقال المرشد الاعلى الإيراني، علي خامنئي: «إننا قادرون على جبه العقوبات الأميركية وعزل الولايات المتحدة من طريق التخلي عن الدولار واستبداله بالعملات الوطنية في التعاملات الثنائية والمتعددة الأطراف». والاقتراح هذا مثير للاهتمام، ولكن موسكو ليس لديها دوافع أو حوافز لقبوله لعدد من الأسباب. أولاً، فالصراع الأيديولوجي الروسي- الأميركي يختلف بعض الشيء عن نظيره بين إيران وأميركا. ثانياً، بذل الكرملين الكثير ليكون على أهبة الاستعداد الدائم للتطبيع مع واشنطن واستئناف علاقات الشراكة معها. وثالثاً، لا تريد موسكو، وهذا ما أعلنه بوتين مراراً، أن تُصنف على أنها جزء من «المحور الشيعي»، الذي يواجه كلاً من الغرب والعالم السنّي.

الابتعاد من الجولان

ويبدو أن الرئيس الروسي، فلادمير بوتين، اقترح على الإيرانيين مناقشة ملف إسرائيل. وكما تعلمون، تسامحت تل أبيب مع انتصار بشار الأسد في سورية، لكنها قلقة من عواقب نجاته المحتملة، وقبل كل شيء، تشعر بالقلق من مرابطة إيران في الأراضي السورية. وأعلن وزير الخارجية الإسرائيلي، أفيغدور ليبرمان، «أنّ إيران تحاول تعزيز مواقعها العسكرية في سورية، وأبلغتُ الوزير الروسي أن على إيران إدراك أنّ إسرائيل لن تسمح بذلك». وفي الواقع، ليس موقف تل أبيب متشدداً مثل تشدد ليبرمان. وعلى رغم ان اسرائيل، طبعاً، لا تريد دوراً إيرانياً في سورية، ولكنها تقيّم الأمور تقييماً واقعياً. فطهران أكبر مستثمر في انتصار النظام السوري وحرمانها من الأرباح والمكاسب – دور سياسي واقتصادي واسع النطاق في سورية – متعذر إلا من طريق شن حرب طويلة ومكلفة. وإسرائيل لا ترغب في مثل هذه الحرب. لذا، فإنّ العاصمة الإسرائيلية مستعدة لقبول بديل يقضي بعدم اقتراب إيران من مرتفعات الجولان.

وهذا، فعلاً، موقف تفاوضي، ويرى بعض الخبراء، أن في وسع الكرملين أن يؤدي (وهو يقوم فعلاً بهذا الدور) دور الوسيط بين تل أبيب وطهران. وقد يرفض الإيرانيون الوساطة الروسية. ولكن، لا يخفى أن الإسرائيليين درجوا على حل مشاكلهم بواسطة الصواريخ والقنابل. ولا يمكن وقف «هذه الحلول» إلا من طريق حرب كبيرة على إسرائيل- وهذا ما لا تريده إيران ولا بشار الأسد الذي يحاول انتشال بلاده من المستنقع. وعليه، المفاوضات متواصلة ومستمرة.

البعد التركي

وإلى إسرائيل، تناولت القمة الإيرانية- الروسية البعد التركي من طريق غير مباشرة. ولكن، جلي أن القمة رمت، إلى ما رمت إليه، إلى النزول على رغبة موسكو في إقصاء أنقرة. والى اليوم، فالعلاقات الروسية- التركية تدور على مستوى عال. ويتعاون الطرفان في سورية، ويعقدان اتفاقات مهمة وعقوداً في مجال الطاقة النووية، ويلومان الغرب معاً. غير أن التعاون المتبادل لا يعني أن أنقرة تحترم المصالح الروسية كلها، بما فيها المصالح الوثيقة بالأمن القومي الروسي. والمسألة لا تقتصر على القرم والدعم التركي المستمر لمنظمة «مجلس» الإرهابية. ويرى مدير مركز الدراسات الشرقية والعلاقات الدولية والديبلوماسية العامة، فلاديمير أفاتكوف، أن تركيا تسعى سعياً حثيثاً في الترويج للقومية التركية في جمهوريات الاتحاد السوفياتي السابق، وفي عدد من المناطق الروسية (ولا سيما في منطقة الفولغا). وترمي أنقرة إلى تعزيز مشاعر القومية التركية في وسط السكان الذين ينتمون إلى العالم والتاريخ التركي، وتروِّج لأفكار قومية تركية بدءاً من الذئب الرمادي (من عناصر أسطورة الخلق عند الشعب التركي) وصولاً إلى أردوغان العظيم.

ولا شك في أن هذه المساعي التركية تقوض «العالم الروسي». وإقناع أنقرة بالتخلي عن الترويج لفكرة القومية التركية بين الروس لا ينجح، ولا يتوقع أن يكلل بالنجاح. فالمسألة في حسابات أردوغان ليست نزوة شخصية فحسب، بل هي كذلك ضرورة سياسية داخلية لاستمالة دعم القوميين المحليين. وعليه، يرد الكرملين على جبهات أخرى، منها على وجه التحديد، جبهة إيران وأذربيجان، حيث تقوّي موسكو يد طهران، غريمة تركيا، وتوفر فرصاً بديلة لأذربيجان عن الاستتباع التركي – وشطر من النخبة الآذرية في اذربيجان لا يريد التبعية لأنقرة، بل تنويع علاقات باكو الخارجية مع الحفاظ على التحالف الوثيق بين أذربيجان وتركيا.

ولا نقول إن الكرملين سلك مسار تأزيم العلاقات مع تركيا. فموســـكو تسعى إلى بناء نظام من الضوابط والتوازنات الطبيعية في العلاقات الدولية، وفيه لا صداقات بين الدول بل التقاء مؤقتاً فحســـب، ومدة هذا الالتقاء والتقاطع وثيقة الصلة بمدى تشابك المصالح وعمقها. وعلى رغم أن تـــشابك أو تقاطع المصالح الروسية – التركية في ذروته، ليست العلاقات هذه طويلة الأمد، بل هو تقاطع مصالح على الامد المتوسط ومداره على صراع أردوغان مع الغرب، ورغبة أنقرة في الحد من الأضرار الناجمة عن مغامرة الشرق الأوسط والخروج من المستنقع السوري. لذا، تمس حاجة موسكو منذ اليوم الى صــوغ الأدوات اللازمة لبلوغ التوازن مع تركيا قبل نفاد مدة تقاطع المصالح، سواء على المستوى الثنائي أو على المستوى المتعدد الأطراف.

* محلل سياسي، عن مجلة «إكسبرت» الروسية.

نقلا عن جريدة “الحياة”