فيلم قضية 23: الألم والدموع وجرح الوطن المفتوح

محمود الاحمدية

الثلاثاء الماضي بتاريخ 3/10/2017 وفي إحدى “المولات” الجديدة في ضواحي العاصمة، تسعة صالات رائعة حديثة تجذب وبعمق مطلق أي هاوٍ للسينما للتمتّع بأحدث تكنولوجيا حيث تخال نفسك في قلب المشهد… وكنت قاصداً فيلم “قضية 23” الذي أثار ضجة عالمية من خلال الجائزة الأولى لأفضل ممثل في مهرجان فينيسيا الإيطالي وأحد ركائز التمييز في عالم السينما وتقييم أحدث الأفلام العالمية ومن سخافة القدر أنّ مخرجه اللبناني المفخرة زياد الدويري وبدل أن يفرش له السجاد الأحمر تقديراً وافتخاراً بالخمس دقائق التي كانت مدة التصفيق في صالة المهرجان وقوفاً واحتراماً من خيرة سينمائيي العالم واسم لبنان يرفرف عالياً عبر أحد أبنائه… بالعكس وفي مطار الشهيد رفيق الحريري قبضوا على زياد الدويري وسحبوا جواز سفره وطلبوا منه الحضور في اليوم التالي للتحقيق… نحن شعب (عصفوري) الهوى يتعاطى بسادية موصوفة وبجلد ذات لا حدود له وبسياسة فضائحية لا تقيم الأمور إلا من زاوية مصالحها وآخر همّها الوطن وأرض الوطن وسعادة شعب الوطن… لنعد إلى الفيلم الحلم…

بدأ الفيلم بمشهدية للدكتور سمير جعجع في جمهور “قواتي” وبلغة حفظناها منذ زمن بعيد كمتأثرين بمبادئ الحركة الوطنية في تلك الأيام… ثمّ انتقل المشهد إلى شرفة عادل كرم والتي وقعت منها المياه الملوثة السوداء على رأس بعض عمّال الشركة في شارع فسوح في الأشرفية والتي كانت تقوم بترميم البناية التي يسكنها عادل كرم (القواتي) وتطلع عادل نحو الأسفل وكان المهندس الفلسطيني ياسر المسؤول الفني عن المشروع يسير بجانب العمال وسمع عادل يتكلم بلغة سوقية عن الفلسطينيين فردّ ياسر التحية بمثلها قائلاً له بأعلى صوت “أنت عَرْسْ” وجنّ جنون عادل وكانت مساهمة من الممثل طلال الجردي المسؤول من قبل الشركة للتوسّط بين الإثنين وكان شرط عادل: يجب على ياسر أن يعتذر منّي…

فيلم قضية 23

ومرّت اللحظات الثقيلة على الوجدان والخاطر عندما حاول طلال إقناع ياسر بالإعتذار لعادل حفاظاً على استمرارية العمل في منطقة لا تحب الفلسطينيين أي الأشرفية… وبعد جهد جهيد يأتي المهندس ياسر إلى محلة الميكانيكي عادل وقبل أن يصل إلى البوابة الخارجية قابله عادل بعاصفة من كلام من العيار الثقيل: يا ريت شارون مسحكم وما خلّى فلسطيني على وجه البسيطة…

وتوالى الكلام والمهندس ياسر ناصت حتى انقلب الموقف وتفوّقت أعصابه على عقله وهاجم عادل كاسراً له ضلعين من ضلوعه… وعاد عادل إلى منزله حيث تنتظره زوجته التي كانت معتدلة متفهمة والتي ناقشته طوال الفيلم على كل جملة وكل فاصلة وكل كلمة… كانت لعادل بالمرصاد…

وتقدم المهندس ياسر الفلسطيني إلى المحكمة طالباً تسليم نفسه بأريحية غريبة وبإيمان كامل… وبدأت محاكمة تعدّ بكل المقاييس الأعمال والأسمى والأكثر تعقّلاً وتقنية في تاريخ السينما العربية… ومن خلال المحاكمة حيث يتواجه الممثل المبدع شوقي كمحامي عن “القواتي” عادل ونتفاجأ بإبنته المؤمنة بعدالة القضية الفلسطينية كمحامية عن المهندس ياسر… ومن أروع المواقف في الفيلم أن ياسر رفض الإفصاح عما قاله له عادل قبل ضربه له وبإصرار عجائبي والموقف الثاني هو هذه النفحة الإنسانية في نهاية الفيلم عندما يربح ياسر القضية ويظهران سوياً من المحكمة ويركب كل منهما سيارته فينطلق الميكانيكي عادل بسيارته بعكس ياسر الذي تعطّلت سيارته ولم تقلع وتفاجأنا بعودة عادل وهو يشاهد ذلك في المرآة حوالي كلم كامل حتى وصل إلى سيارة ياسر وترجّل من سيارته وصلّح له سيارته بدون ابتسامة ولكن بفعل رائع إنساني إبداعي يجبرك على الدمع وبغزارة!!

انتهى الفيلم بعد العودة إلى تهجير الداموريين وعادل كان قد أخفى قصة أنه من الدامور وقصة طريقة تهجيره من قبل فلسطينيي سوريا والحركة الوطنية في أوقات حرب لا ترحم وأثبت المحامي الأب أن عادل كان ينظر إلى ياسر من منظار الفلسطيني الغاصب الذي هجّره أبناء قومه من منزله… وروعة ياسر هذا الهدوء والتعبير الإعجازي في حركاته وكأنه لا يمثّل فتفكر بعظمة مارلون براندو، وعادل الذي يسلبك كل أحاسيسك ومشاعرك بتمثيله للقضية التي يدافع عنه وهي الوطن كـ”قواتي” ويصل إلى حدود التفوّق على نفسه وكممثل عالمي.

هذا الفيلم وعبر وزياد الدويري يقدم رسالة إلى اللبنانيين والفلسطينيين والعرب والعالم أن كلنا ولاد تسعة والكمال لله وعلينا أخذ العبرة من حدّة المواجهات في الفيلم بأن لا تتكرر هذه الأحداث التي أحرقت أجمل الأوطان وشرّدت شعبه في أربع رياح الأرض وخلاصتها وبعد هذا الفيلم الخاسر الأكبر هو الوطن والرابح الأكبر كل متآمر على الوطن، وكلنا أخطأنا بحق الوطن، اللبنانيون والفلسطينيون…

والملاحظة الفاقعة التي لا يستطيع أي مشاهد إلا أن يتفاجأ بها هو هذا التحوّل في مواقف زياد الدويري في نظرته إلى الوطن والقضية اللبنانية على تناقض كامل من فيلمه السابق (بيروت الغربية) عام 1998، أما أفلامه (الهجوم) الذي صوّر في جزء منه في فلسطين عام 1912 و(قالت ليلى) عام 2004 فلنا حديث قادم عنهما…

وتبقى الغصّة الكبيرة تجاوز الحركة الوطنية وعرّابها الخالد كمال جنبلاط بكل وهجها وأهدافها التي حطّمتها في المهد كل أنظمة الإقليم… ولن أزيد!!.

*رئيس جمعية طبيعة بلا حدود

 (الأنباء)

اقرأ أيضاً بقلم محمود الاحمدية

لبنان لن يموت

أكون حيث يكون الحق ولا أبالي

لماذا هذا السقوط العربي المريع؟!

جشع بلا حدود وضمائر ميتة في بلد ينهار!

جاهلية سياسية… بل أكثر!

معرض فندق صوفر الكبير والتاريخ والذاكرة

قال لي: عندما تهاجم الفساد ابتسم بألم!!

إذا أجمع الناس على مديحك سوف أطردك!!

التاريخ لا يرحم… يجب إعادة كتابته

ما هو دوري كوزير جديد؟

مشروع كمّ الأفواه تدمير للبنان الرسالة

الجامعتان اليسوعية والأميركية تنسحبان: التعليم العالي في خطر

السويداء في عين العاصفة

تقريران رسميان متناقضان عن تلوث بحر لبنان

في ذكراها الـ 74 اسمهان: قصصٌ خالدة

طبيعة بلا حدود ربع قرن من النضال البيئي

فريد الأطرش وشوبرت والفن العالمي الخالد

يوم البيئة العالمي: التغلب على تلويث البلاستيك

قطعة الماس في جبل من الزجاج

مسيرة منتدى أصدقاء فريد الأطرش تشع في دار الأوبرا في القاهرة