تعديل “الأحوال الشخصية” عند الدروز: خطوة متقدمة لحماية القاصر… وإنصاف المرأة!

بعد نضال متواصل من الجمعيات النسائية الدرزية، وبعد مسار طويل من العمل الحثيث من قبل المجتمع الأهلي ورعاية ومتابعة المجلس المذهبي لطائفة الموحّدين الدروز، وبفضل مواكبة ودعم رئيس “اللقاء الديمقراطي” النائب وليد جنبلاط ونجله تيمور ومتابعة من السيدة نورا جنبلاط، بالإضافة إلى مؤازرة الأمير طلال أرسلان، صدر الثلاثاء قانون الأحوال الشخصية للطائفة بنسخته المعدّلة، والتي أتت لتنصف المرأة الدرزية بصورةٍ متقدّمة جداً في أكثر من مجال، أبرزها المهر المسمّى في عقد الزواج، والحضانة، والميراث.

ويتضمّن القانون الجديد الذي أقرّته الهيئة العامة للمجلس النيابي اليوم تعديلات طالت 18 مادة في القانون الأصلي، بعضها اتت لاستبدال عبارات بأخرى تعطي المعنى ذاته وتراعي تطور المفاهيم، وبعضها الآخر تناولت تعديل نصوص بعض المواد او اضافة فقرات عليها. وهناك بعض التعديلات كرست الاجتهادات التي تتبع من قبل المحاكم المذهبية، كتكريس حق القاضي في تكليف اخصّائي نفسي أو اجتماعي محاولة إصلاح ذات البين في حالات الطلاق.

ورغم أنه أقرّ منذ العام 1948، إلا أن قانون الأحوال الشخصية لطائفة الموحّدين الدروز لطالما اعتُبر قانوناً عصرياً ومتطوّراً، كونه يتضمن نصوصاً وأحكاماً متقدمة ومتميزة منها مثلاً مساواة المرأة بالرجل بطلب التفريق، والحكم للمرأة بالعطل والضرر إضافة الى مهرها إذ كان الطلاق دون سبب شرعي، إضافة الى حرية الفرد بالإيصاء وغيرها.

15

 

هذا الواقع أكّدت عليه رئيسة الجمعية الخيرية للتوعية الإجتماعية السيدة مي وهّاب بو حمدان التي حملت هذا الملف منذ حوالي ثلاثين عاماً وقد قالت لـ “الأنباء” ان “قانون الأحوال الشخصية لطائفة الموحّدين الدروز هو قانون مدني تحت غطاء الدين سبق شرعة حقوق الإنسان لناحية إنصاف المرأة وتكريس مبدأ المساواة بينها وبين الرجل”، ولفتت بو حمدان الى ان “شرط الإمام الذي يستند إليه القانون يقول أنه إذا تسلّم أحد الموحّدين إحدى أخواته الموحّدات، فعليه أن يساويها بنفسه وينصفها بكل ما يملك من دنيا ودين، فإذا كان لا يملك سوى القميص الذي على جسمه لها نصفه”، وأشارت إلى ان “هذا المبدأ لم يكن يطبَّق في محاكمنا المذهبية وتمت الإستعاضة عنه بالحكم بالعطل والضرر للمرأة بحجّة المحافظة على المؤسسة الزوجية والحد من الطلاق”، كما قالت بو حمدان.

لكن مع تطوّر العصر والمفاهيم ودخول متغيرات كثيرة على ظروف الحياة الزوجية والعائلية، وجدت الجمعيات النسائية الدرزية ضرورةً ملحّة لإدخال بعض التعديلات على القانون، ليس لإنصاف المرأة وحدها، بل لإنصاف كلا الزوجيْن، والأولاد بالدرجة الأولى، فيما بقي الهدف الأول والأخير الحفاظ على الأسرة وقدسية الرباط الزوجي وعدالة الحقوق والواجبات المترتّبة على الطرفيْن بموجبه.

ويُسجّل للمجلس المذهبي لطائفة الموحّدين الدروز، وهو أحد الجهات صاحبة الصلاحية في دراسة واقتراح أو تعديل مشاريع القوانين المتعلقة بشؤون الطائفة، خطوتيْن متقدّمتيْن: الأولى هي تلقّفه، مطالب الجمعيات النسائية الدرزية بإدخال بعض التعديلات لإنصاف المرأة، و”بعض هذه المطالب يعود إلى أكثر من سبعة وعشرين عاماً”، كما تقول بو حمدان. والخطوة الثانية هي المعايير والتفسيرات التي استند إليها في اقتراحه التعديلات، والتي تعبّر في جوهرها عن نظرة متطوّرة لحقوق الإنسان بصورة عامة ولحقوق المرأة والطفل بصورة خاصة، والتي تعكس النظرة التوحيدية العميقة لمعنى الزواج وفحواه وأهدافه ودوره في المحافظة على مجتمع سليم.

في هذا الإطار أتت التعديلات الجوهرية التي أقرّتها الهيئة العامة للمجلس النيابي عليها اليوم، بناء على اقتراح قانون تقدّم به مجلس إدارة المجلس المذهبي، وتمّ تبنّيه من النواب والوزراء الدروز، وناقشته لجان الداخلية الإدارة والعدل، والمرأة والطفل، قبل إحالته إلى الهيئة العامة للمجلس النيابي.

عضو مجلس إدارة المجلس المذهبي لطائفة الموحّدين الدروز، رئيسة اللجنة الإجتماعية المحامية غادة جنبلاط أكّدت لـ “الأنباء” أن “التعديلات التي أُدخلت على قانون الأحوال الشخصية للطائفة طالت بعض المواد، وحرص المجلس من خلالها على “المحافظة على روح الشرع والعادات والتقاليد ومواكبة ما طرأ من تطور وتغيير على المجتمع وعلى العلاقات البشرية والمفاهيم الانسانية، لا سيما تلك المتعلقة بالعلاقات الأسرية، لتأتي منصفة للرجل والمرأة على حد سواء”.

00

وشرحت جنبلاط أهم التعديلات التي أجريت، وهي:

1-   قطع البنت او البنات الميراث، بحيث ترث كامل تركة مورثها عند وفاة الاب اذا لم يكن للمتوفي اولاداً ذكوراً.

2-   تحديد كيفية إحتساب قيمة المهر المحدد بالعملة الورقية حين استحقاقه بالنسبة لعقود الزواج التي مضى على عقدها خمس سنوات أو أكثر.

3-   أما التعديل الأهم فيتعلق برفع سن الحضانة بحيث أصبح 12 سنة للصبي و 14 للبنت.

وهنا تؤكّد جنبلاط بأن “المعيار الاساسي الذي أخذ بعين الاعتبار لرفع السن هو مصلحة الطفل، حيث اكدت جميع الدراسات ان فصل الطفل عن أمّه في سن مبكرة يعرضه لمضاعفات نفسية بالغة تؤثر على حياته ومستقبله”.

4-   تكريس حق المشاهدة بنصّ بإضافة فقرة الى المادة 64 من القانون، فاذا كان القاصر عند احد الابوين لا يجوز ان يمنع الآخر من مشاهدة الطفل لأن حق مشاهدة الطفل لوالده او لوالدته هو حق للقاصر قبل ان يكون حقاً للوالدين”، ختمت جنبلاط.

 

إقرار هذه التعديلات لقي اعتراضاً من بعض القضاة داخل المجلس المذهبي نفسه، باعتبار أن إنصاف المرأة بحضانة أولادها قد يشجّعها على الطلاق انطلاقاً من حقّها بطلب التفريق، كما أنه يغيّب دور الأب، ويلغي تأثيره في تربية أولاده. وقد وصفه البعض بأنه كارثة على المجتمع الدرزي!

غير أن التدقيق بنص التعديلات وبالأسباب الموجبة التي أُرفقت مع مشروع القانون يأتي ليدحض بالأدلة والوقائع هذه النظرة، خصوصاً أن رفع سنّ الحضانة من 7 إلى 12 للصبي ومن 9 إلى 14 للبنت استُند فيه إلى مصلحة المحضون بالدرجة الأولى، كما اقترن حصول الأم على حضانة أولادها بشروط لا بد أن تدفعها إلى إعادة النظر مليّاً قبل القبول بالطلاق او طلبه، منها مثلاً أن تنذر حياتها لتربيتهم، باعتبار أن حقّها بالحضانة يسقط تلقائياً في حال تزوّجت ثانيةً!

في هذا السياق، أوضح رئيس اللجنة القانونية في المجلس المذهبي لطائفة الموحّدين الدروز المحامي نشأت هلال لـ “الأنباء” أن “التعديلات المتعلّقة برفع سنّ الحضانة تحديداً كانت موضع خلاف إلا أننا لم نقترحها من العدم ولا من باب تشجيع المرأة على الطلاق كما صوّر البعض، إنما استندنا في اقتراحها على تجارب الدول المحيطة بنا، والتي أظهر تطوّر التشريعات لديها في ما يتعلّق بالأحوال الشخصية تطوّراً في مبدأ حضانة الأطفال، كما أننا استندنا إلى دراسات علمية عدة في علم النفس والإجتماع أثبتت جميعها حاجة القاصر سواء أكان ولداً أم بنتاً لرعاية أمّه حتّى سنّ محدّدة، فضلاً عن أن الوقائع العملية كلّها تثبت حاجة الأولاد لحضن أمّهم في مرحلة عمرية معيّنة، دون أن يعني ذلك تغييب دور الأب، الذي يبقى هو الولي العام على القاصر”. وشدّد هلال على أن “المعيار الأساس الذي تم اعتماده في رفع سنّ الحضانة هو مصلحة المحضون القاصر وليس مصلحة الأم، خصوصاً أن الحكم لها بحضانة أولادها يقتضي توفّر شروط الأهلية فيها ويضعها أمام تحدّيات حياتية كثيرة”!

index1

في المقابل، تبدو بعض التعديلات للوهلة الأولى غير منصفة بحقّ المرأة، منها مثلاً المادة 22، التي تنص على أنه “على الزوجة بعد استيفاء المهر المعجّل وإجراء عقد الزواج الشرعي الإقامة في بيت زوجها إذا كان مسكناً شرعياً، وكذلك عليها الذهاب معه إذا أراد الذهاب إلى بلد آخر ولم يكن هناك مانع جدّي. والمسكن الشرعي هو المسكن الذي يمكن أن يسكن فيه أمثال الزوجيْن. أما إذا تمنّعت الزوجة عن الإلتحاق بالمسكن الزوجي الشرعي أو الذهاب مع زوجها إلى بلد آخر ولم يكن هناك مانع جدّي، فيسقط عنها المهر المؤجّل”.

وفي هذا السياق، شرحت جنبلاط أن “هناك أسباب موجبة بالفعل وراء تعديل ولا يعتَبر تعديل المادة 22 غير منصف بحق المرأة. فالزواج عقد شراكة له مقاصده ووسائله التي تهدف الى المعاشرة بالمعروف، وينشىء لكل واحد من الزوجين على الاخر حقوقاً وواجبات، ومن هذه الموجبات اقامة الزوجة في البيت الزوجي. وهذا الموجب مكرّس أصلاً في المادة 22 من القانون. وأكّدت أن “التعديل الي طال هذه المادة اقتصر على اضافةفقرة تحدد مسؤولية الزوجة في حال تمنعت من الالتحاق بالمسكن الزوجي الشرعي او الذهاب مع زوجها الى بلد آخر ولم يكن هناك مانع جدي، وذلك للمحافظة على الاسرة وعلى العلاقة الزوجية والغاية منها.

وأردفت جنبلاط ان “الطلاق ليس ترفاً كي تقدم عليه الزوجة، وخاصة الام من دون سبب مبرر، فهو أبغض الحلال عند الله. وبالتالي اذا كان قانون الاحوال الشخصية لطائفة الموحدين الدروز قد تميز بإنصاف المرأة التوحيدية وأعطاها الحق بطلب التفريق أسوة بالرجل إلا انه بالمقابل جعل عقد الزواج لا ينحل بالطلاق إلا بحكم يصدر عن فضيلة قاضي المذهب الذي ينظر الى اسبابه ويحاول معالجة المشكلة بين الزوجين بتعين محكمين”، ونوّهت إلى أن “بعد التعديل أصبح يحق للقاضي بموجب نصّ، ان يعين اخصائي اجتماعي لاصلاح ذات البين. فإذا تعذر ذلك يحكم بالطلاق مرتباً المسؤولية على من تسبب بفسخ الزواج بحيث اذا كان النزاع والشقاق الذي حل بين الزوجين وادى الى طلب التفريق – تقع كامل مسؤوليته او بعضها على الزوجة فيحكم القاضي باسقاط المهر المؤجل كله او بعضه اضافة الى الحكم عليها بالعطل والضرر”!

مرّة جديدة أظهر الموحّدون الدروز – وهم المعروفون بتمسّكهم بالعادات والتقاليد المعروفية المحافظة – عدالةً إنسانية وانفتاحاً تقدّمياً في تنظيم شؤون أبناء طائفتهم، برجالها ونسائها وأطفالها. وإن كانت خطوة تعديل قانون الأحوال الشخصية للطائفة اليوم تكتسب وهجاً خاصاً، فلأنها أتت بإجماعٍ شبه مطلق من رجال الدين والزعامات السياسية والمجتمع المدني الدرزي على حدّ سواء، ما شكّل خطوة متقدّمة تنذر بالمزيد من التطور والإنفتاح في عقلية أبناء الطائفة، وفاتحة للمزيد من التطوير على مستوى قوانين الأحوال الشخصية لسائر الطوائف اللبنانية، في ظل الرفض المبدئي لإقرار قانون مدني إختياري للأحوال الشخصية يساوي بين جميع اللبنانيين ويعدل بينهم في أبسط حقوقهم وواجباتهم!

غنوة غازي – “الأنباء”