وقفة مؤبِّن يرثي الشهادة الحقَّة / بقلم سناء خضر  

الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُم مُّصِيبَةٌ قَالُوا إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ

بالأمس… كانوا أسرى حرب سقطوا بأيدي العدو. هم جنود يدافعون عن الحرية والكرامة، ويَحمون أرض الوطن وأبنائه ليبقوا أحراراً وكرامتهم محفوظة في وطن حر سيد مستقل. لأجل هذا سيقوا إلى السجون، قيّدوا، سُلبوا كرامتهم، وحُرِموا حريتهم. في الأصل هم رمز الحرية والتحرير، وأصبحت قصّتهم اليوم رمزٌ لظلم وظلام الإنسان، أصبحوا مثال المظلوم.

وحده الله يعلم ما عاشوه وبأي حال كانوا، وأية معاملة تلقوا في الوقت الذي كان كل فرد من أبناء الوطن ينام على فراشه مطمئن، يسهر مع عائلته، يأكل ما يشاء، يضحك، يفرح… وهم!!! لانعرف كيفية عيشهم، والتساؤلات لا تنتهي، هل ضُربوا؟ هل شُتموا؟ هل أُهينوا؟ لا نعلم شيئاً. وشاهدناهم عند محتجزيهم يقولون: “نحن مكرمون ومرتاحون…”. فهل في الأسر كرامة؟ وهل ترتاح نفس تترقب الموت بين لحظة ولحظة، قالوا… وقالوا… ونحن جالسون أمام الشاشات في منازلنا ننظر في أعينهم وكأننا نعرف هذه النظرات. نسمع ما يقولون ولكننا ننتظر أن تنطق العيون، نحاول أن نشعر بحالهم، بما يجول ببالهم في تلك الأثناء، وعقولنا تمنع الصوت من أن يصل اليها لعلمها أن ما تلفظه الأفواه في ظل راية سوداء لا يمكن أن يحمل النور والحقيقة بين حروفه. كيف تكون الإجابات تحت وطئة الظلم وقسوة التهديد والإجبار والقمع…؟

نحاول بالعقل اسقاط الظلم على أنفسنا علّنا نحس بما حصل لهم، وكيف مرّت عليهم الساعات الأخيرة. إلّا إننا حتماً نفشل في كل مرّة فعقولنا ترحم حالنا حتى في الخيال، ولكننا ندرك أن العقول الظالمة لا تعيش الرحمة فيها ولا تظهر الصحوة في أفعالها. ثمّ نتساءل… كيف كانت أيامهم وساعاتهم ودقائقهم الأخيرة؟ أكانت ذلاً؟ أم قهراً؟ أم ضرباً؟ أم تعذيباً؟ أم..؟ أم…؟ وكيف كانت النهاية؟ وتدخل في مخيّلتنا مشاهد الإعدام التي كانت تُعرض، ذبحاً، شنقاً، اعدام بالرصاص… ونفشل مرة أخرى! فعيوننا لا تنفك تنظر الى تلك العيون وعقولنا تغوص في وجعها ولا تطاوعنا خيالاتنا!!! لا ندري ما حصل… ولا يمكننا انزال أي ظلم على أولادنا حتى في الخيال.

أمام كل هذا، نقف اليوم امام الشهادة. شهادة الوطن الحقَّة، بدم لبناني زكي متعدد الألوان، يروي شرايين الجبال والوديان فتتوهّج بأرزها، وحقولها، وينابيعها، وأنهارها، وكل ألوانها البهية اللامعة، تقول للعالم أجمع: هذا زرع شهدائي، هذا وطن أبنائي، هذا ماضيهم ومستقبلهم.

نقف اليوم وقفة مُؤبِّن يرثي أبطال لبنان، وقفة فخر وعز بالنصر المحقق الذي أهدوه لنا. نقف وقفة إجلال لهم وتقدير. نقف وقفة واجب العزاء بمشاعر خجلة من حزن أمهات الشهداء وأهاليهم. فيا إلَهي ما أصعب لحظات حزن في صدر آباء وأمهات، اخوة وأخوات، أقارب وأصدقاء… ثكالى، حزن لا يُقاس ولا يُقدَّر! وكم كانت قاسية عليهم لحظة سماع خبر الاستشهاد! لحظة… دامت سنوات!

أيّها الأهالي، نقف أمامكم لنقول لكم بأننا نشعر بالحزن الشديد، ولكن عقولنا ترحمنا مرّة أخرى وتمنعنا من الشعور بالألم والحزن كما تشعرون به أنتم، نشعر بالجراح التي اخترقت صدوركم ولكن تغيب عنّا جراح قلوبكم التي لا تلتحم. نقول هذا، ليس بدافع المواساة، بل بمشاعر صادقة حقَّة لشهادة حقَّة، بمشاعر هي قليلة بمقياس عواطفكم لأبنائكم. فترانا عاجزون عن الكلام وعن إيفاء حق أبنائكم وحقّكم، ولا يمكننا سوى الدعاء لكم بأن يمدَّكم بالصبر والرضى بقضاء الله وقدره، فالموت علينا حق لامفر منه.

وفي الختام، فما يسعنا سوى القول: “الشُّهَدَاءُ عِندَ رَبِّهِمْ لَهُمْ أَجْرُهُمْ وَنُورُهُمْ… أَحْيَاءٌ عِندَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ”.

وأن نعلم أنّه: إن لم تقع حبة الحنطة في الأرضِ وتمت فهي تبقى وحدها. ولكن إن ماتت تأتي بثمرٍ كثير.

(الأنباء)