هل الحرب في غزة حتمية؟

في وقت سابق من هذا الصيف، بدا وكأن الحرب ستندلع في قطاع غزة لا محالة. فقد كانت إسرائيل قد قبلت طلب رئيس السلطة الفلسطينية محمود عباس بقطع الكهرباء عن نحو مليوني شخص من سكان غزة الذين يعيشون تحت حكم «حماس». ومن خلال طلبه هذا، أمل عباس في الضغط على «حماس» للتخلي عن سيىطرتها على القطاع الذي غرق في الظلام في الوقت الذي واجه فيه الفصيل المحاصر ضغوطاً من إسرائيل وعباس من جهة ومصر من جهة أخرى. وبدا أن الأمر مجرد مسألة وقت قبل أن تهاجم «حماس». وقد كان هذا هو الوضع السائد إلى أن برز منقذ غير محتمل: الزعيم المنفي من حركة «فتح» محمد دحلان. فقد هرع خصم عباس الأبرز إلى مصر وتوسّط لإبرام اتفاق بين القاهرة و «حماس» بشأن شحنة وقود طارئة. ومع هدوء الوضع، أعلن دحلان عن ترتيب جديد لقطاع غزة، يقوم بموجبه بجمع الأموال إلى القطاع في الخارج. وفي المقابل، ستسمح «حماس» لمناصريه بالعودة إلى غزة والعمل بحرية في القطاع.

غير أن هذا الاتفاق الأخير الذي شهدته منطقة الشرق الأوسط ليس سوى ترتيب مؤقت. فليس لدى قادة «حماس» سوى القليل من الأهداف المشتركة مع زعيم منفي لحزبهم المنافس، باستثناء هدفين مهمّين هما: تحسين مصاعب الحياة في غزة والتصدي للخصم المشترك، عباس، في الضفة الغربية. ويخدم الترتيب الحالي الهدفين ظاهرياً، ولكن على المدى القريب فقط. وربما كان قد ساهم في إرجاء اندلاع حرب في هذا الصيف، ولكنه عزّز احتمال نشوب صراع في المستقبل.

وبالنسبة لـ «حماس»، كان الاصطفاف إلى جانب دحلان الخيار الواقعي الوحيد لتجنب شنّ حرب أخرى. فقد بدأت الحركة، التي تفتقر إلى المال وتواجه شعباً مستاءً ومعانداً تشعر بآثار الحصار الذي تفرضه السعودية والإمارات على أحد رعاتها، قطر (وقد توجه 10 آلاف من سكان غزة نحو المقر الرئيسي للكهرباء تحي سيطرة «حماس» في كانون الثاني/يناير احتجاجاً [على معاناتهم]). وكان دحلان، أيضاً، يسعى جاهداً إلى المحافظة على دوره. فمنذ أن نفاه عباس في عام 2011، اتخذ رئيس الأمن السابق في غزة من الإمارات مقراً له، حيث عمل على استجداء خدمات من المنطقة وضخّ المال في الأراضي الفلسطينية. غير أنه تمّ تهميش دحلان بشكل متزايد في السياسة الوطنية الفلسطينية بعد أن قام عباس بتطهير حلفائه خلال المؤتمر العام لـ حركة «فتح» في العام الماضي. لذا فإن الأزمة التي تشمل غزة، مسقط رأس دحلان، ومن المحتمل مصر – التي يقيم معها دحلان علاقات قوية – وفّرت له فرصةً لإعادة تأكيد دوره إلى حدّ ما. أما مصر، التي تحرص على تحقيق الاستقرار في غزة كمسألة تتعلق بالأمن القومي وبعد أن فقدت الأمل في اضطلاع عباس بدور بنّاء في القطاع، فكانت أكثر من مستعدة للتعاون مع دحلان.

إن التعاون بين «حماس» ودحلان ومصر هو استراتيجية “عدو عدوي” النموذجية، وهناك عوامل كثيرة تهدد استدامتها. وفي المقام الأول، على الرغم من أن المصالح التكتيكية لهذه الأطراف قد تتلاقى، إلّا أن أهدافها النهائية متباينة. فكل من دحلان و«حماس» يطمح لبسط السيطرة الكاملة على غزة وتولي قيادة الحركة الوطنية الفلسطينية بأكملها في النهاية. ومن جهتها، ستحاول «حماس» استغلال دحلان للحصول على التمويل الخارجي، وخاصة من الإمارات العربيةالمتحدة ودول الخليج، وإقامة صلات مع هذه البلدان، وربما مع الدول الأوروبية. وقد تعهدت الإمارات أساساً بتقديم مبلغ 15 مليون دولار شهرياً [لإنشاء] لجنة إعادة تأهيل مشتركة مع «حماس». وحالما تشعر الحركة أنها أحرزت تقدماً كافياً، فمن المرجح أن تدير ظهرها لدحلان. وبدوره، سيحاول دحلان توسيع قاعدة مؤيديه في غزة وإعادة تنظيمهم وتسليحهم. وبمجرد أن يشعر بالتمكين الكافي [لتحقيق أهدافه]، سيحاول حتماً تأكيد زعامته، عن طريق القوة على الأرجح. أما مصر فهي جزء من تحالف إقليمي معادي للحركات الإسلامية. ولديها أسبابها الخاصة للاستياء من «حماس» بسبب دور الحركة في دعم الجهاديين في سيناء، وستتعاطف مع تطلعات دحلان وتؤيده.

إن التعاون القائم بين «حماس» ودحلان ومصر ضد عباس هو استراتيجية “عدو عدوي” التقليدية.

وليست هذه العوامل هي الوحيدة التي تهدد الترتيب الراهن. فأسباب امتعاض «حماس» تعود إلى عقود خلت، حيث أن دحلان لم يكن خصمها الرئيسي فقط خلال الحرب الأهلية عام 2007 التي طُردت خلالها قواته من غزة، بل أن الكثيرين يتذكرون حملة القمع الوحشي التي شنّتها قوات الأمن التابعة لـ “السلطة الفلسطينية” تحت قيادة دحلان في تسعينيات القرن الماضي. ولا تزال وحشية «حماس» خلال استيلائها العنيف على غزة أيضاً ماثلةً في ذهون عدد كبير من أعضاء حركة «فتح» في القطاع، إلى جانب حملة القمع التي تمارسها «حماس» والتي تلاحقهم منذ ذلك الحين. ورغم أن قيادة «حماس» ودحلان قد يكونان قادرين على وضع كبريائهما جانباً لضمان نجاح الترتيب، إلّا أنه ليس هناك مؤشرات كثيرة على أن طرفيهما المعنيَيْن سوف يستمران في القيام بذلك لفترة طويلة.

وبطبيعة الحال يدرك كل من الطرفين الدينامكيات القائمة جيداً وسيحاول المناورة بكياسة وحذر. فهناك عدة خيارات مطروحة أمام عباس الذي ينظر بحق إلى هذا التحالف باعتباره تحدياً مباشراً لسلطته كزعيم للحركة الوطنية الفلسطينية وزعيم لحركة «فتح». وقد يحاول إظهار مرونة أكبر في تلبية مطالب «حماس»، مثل استئناف مدفوعات الوقود، وإبرام اتفاقه الخاص مع الحركة. ويبدو أن هذا الخيار كان وراء اجتماعاته الأخيرة مع قادة «حماس» في الضفة الغربية. وقد تثير مثل هذه الخطة اهتمام عناصر «حماس»، حيث أن بعضهم يستلطفونه أكثر من دحلان، في حين يرى آخرون أنه لا يتمتع بالقدرة نفسها على إضعافهم على المدى الطويل. وبدلاً من ذلك، قد يسعى إلى إعادة تأكيد زعامته – وشجب الترتيبات الجديدة – وانتزاعها من الهيئات الرسمية لـ “منظمة التحرير الفلسطينية”. وبالفعل، سبق أن بدأت أحاديث من قادة فلسطينيين بشأن الدعوة إلى انعقاد “المجلس الوطني الفلسطيني”، الذي هو بمثابة برلمان “منظمة التحرير الفلسطينية”. وستواجه مثل هذه الخطوة معارضة من نقّاد عباس داخل “المنظمة”، لكنه سيأمل على الأرجح تكرار تجربته من العام الماضي حين دعا إلى عقد المؤتمر العام لحركة «فتح»، بعد ضغوط عربية من أجل التصالح مع دحلان. ويقيناً، كان ذلك المؤتمر مختلاً وغير تمثيلي، لكنه مع ذلك كان كافياً من أجل تعزيز سلطته ومقاومة الضغط العربي للتوافق مع دحلان.

وتجمع دحلان والرئيس المصري عبد الفتاح السيسي مصالح من أجل المستقبل أكثر من شركائهما الإسلاميين في «حماس»، حيث أن الاثنين يعتبران «الإخوان المسلمين» بمثابة تهديد إيديولوجي لحكمهما ويرغبان في قيادة قوية ومستقرة في غزة. ولطالما اعتُبر دحلان الطرف الوحيد الذي يمكنه التوسّط لفتح معبر رفح البالغ الأهمية إلى غزة. ولو كان الفلسطينيون يواجهون أزمة خلافة مفاجئة، فمن المرجح أن تدعم القاهرة أي شخصية من حركة «فتح» يمكنها ضمان الاستقرار في غزة، ويبدو أن دحلان هو الرجل المناسب لشغل هذا المنصب في الوقت الحالي.

وعلى المدى القريب، قد يستمر الترتيب القائم. فدحلان ومصر سيضخان الوقود الذي تشتد الحاجة إليه في القطاع الساحلي في حين تحول «حماس» دون وقوع أي اضطراب شعبي. لكن حالما يتغير الوضع الراهن – سواء من خلال توافر مصادر الطاقة الإضافية أو تخلي عباس البالغ من العمر 82 عاماً بشكل مفاجئ عن الرئاسة – لن يكون أمام الطرفين مبررات كثيرة للإبقاء على الترتيب. فقد تكون الحرب مع إسرائيل قد تأجلت، ولكن الصراع داخل غزة يبدو حتمياً.

(*) معهد واشنطن