توازن الرعب في أقصى الشرق

د. ناصر زيدان (الخليج الإماراتية)

لا يمكن التقليل من مستوى التوترات الدولية التي تحصل على خلفية ملف كوريا الشمالية بشقيه: البرنامج النووي، وفي مجال تجارب برنامج تطوير الصواريخ البالستية العابرة للقارات. والولايات المتحدة الأمريكية بدأت تستشعر الخطر القادم من كوريا على أراضيها، بعد أن كانت في الماضي القريب ترى في برنامج كوريا الشمالية خطراً على حلفائها في اليابان وكوريا الجنوبية فقط، ذلك لأن التجارب الحديثة التي قامت بها بيونج يانج؛ شملت إطلاق صاروخ عابر للقارات في 28 يوليو/تموز الماضي، يصل مداه إلى الأراضي الأمريكية، ويمكنه أن يحمل رأساً نووية.
الرئيس الأمريكي دونالد ترامب كان أكثر وضوحاً هذه المرة، وكتب في تغريدة على حسابه عبر «تويتر»، قائلاً «سمح قادتنا الحمقى السابقون للصين بجني مئات مليارات الدولارات سنوياً من التجارة، ولكنهم لم يفعلوا لنا شياً مع كوريا الشمالية،… بوسع الصين أن تحل هذه المُشكلة بسهولة».
سبق هذا الموقف لترامب؛ تحليق طائرتين حربيتين استراتيجيتين من نوع بي – 1 – بي فوق شبه الجزيرة الكورية، في إشارة إلى استعداد واشنطن لكل الاحتمالات، فيما لو استمرَّت بيونج يانج بتجاربها العسكرية.
أيضاً وأيضاً، فقد ترافق مع هذه الخطوات الأميركية؛ إصدار الكونجرس جملة من العقوبات الاقتصادية الجديدة على روسيا وإيران وكوريا الشمالية.
وعلى الجانب الآخر؛ فقد أعلنت الصين، على هامش الاحتفالات التي جرت بمناسبة مرور 90 عاماً على تأسيس «جيش التحرير الشعبي»، عن تدشين أول قاعدة عسكرية لها خارج البلاد في جيبوتي، واستعرضت أسلحة استراتيجية تخرج للمرة الأولى إلى العلن في الاحتفال. وقال الرئيس الصيني شي جين بينغ، إن بلاده لا تخاف من التهديدات، وهي قادرة على مواجهة أي اعتداء، لكنه أشار إلى أن هدف الصين هو الحفاظ على السلام، ولكن هذا السلام مفقود اليوم في كل أنحاء العالم. أما الموقف الأبرز الذي أعلنته الصين رداً على تصريح الرئيس ترامب؛ فصدر عن سفير الصين في الأمم المتحدة، حيث قال: إن تخفيف التوتر هو من مسؤولية الولايات المتحدة الأمريكية وكوريا الشمالية، وليس من مسؤولية الصين.
بالمقابل؛ فإن روسيا لا تُجاري الولايات المتحدة الأمريكية في ما يتعلق بالأزمة الكورية، وهي تعتبر أن الملف الكوري الشمالي لا يمكن مقاربته إلا من خلال الحوار بين الدول الست المعنية، (الولايات المتحدة الأمريكية والصين وروسيا واليابان وكوريا الجنوبية وكوريا الشمالية)، فضلاً عن أن روسيا مُمتعِضة جداً من العقوبات الجديدة التي فرضتها واشنطن عليها على خلفية الأحداث في أوكرانيا، كما أنها غير مرتاحة للجولات المكوكية التي قام بها نائب الرئيس الأمريكي مايك بنس، في دول البلطيق الثلاث: ليتوانيا ولاتفيا واستونيا، كما أن موسكو تنظر بحذر إلى التعاون الجديد بين واشنطن وجورجيا. ولعل قرار الرئيس بوتين بطرد مئات الدبلوماسيين الأمريكيين من الأراضي الروسية رداً على العقوبات؛ أكبر دليل على سِمة التشدُّد التي تعتمدها موسكو مع واشنطن، بصرف النظر عن بعض التعاون الذي تحدث عنه الطرفان في ما يتعلق بالأزمة السورية.
وتُنذر الأزمة الناتجة عن التمرُّد الكوري الشمالي بنتائج غير محسوبة. فالولايات المتحدة الأمريكية لا يمكنها التساهُل مع هذا التفلُّت الخطر لبيونغ يانغ، والتجارب النووية الكورية الشمالية، مضاف إليها إطلاق تجارب على صواريخ باليستية قادرة على الوصول إلى الأراضي الأمريكية؛ تُشكِلُ تحدياً غير مقبول، وهي تقوِّض السلام العالمي برمته، كما أن حلفاء واشنطن في أقصى الشرق – خصوصاً اليابان وكوريا الجنوبية – لا يمكنهما السكوت عن هذه التطورات، وقد ناشد رئيس وزراء اليابان شينزو آبي العالم بأخذ التهديد الكوري الشمالي على محمل الجد، وتشديد الإجراءات التي تحد من الانفلات النووي الكوري الشمالي، وقد كان للاتصال الهاتفي الذي أجراه شينزو آبي مع ترامب مؤخراً؛ بالغ الأثر في تحريك الانفعال الأمريكي تجاه الملف الكوري.
في حسابات التحالفات والمخاصمات الدولية في أقصى الشرق؛ لا يمكن إغفال تأثير الصين في كوريا الشمالية، كما أن موسكو لها علاقات مُتميِّزة مع بيونج يانج، وبالتالي للبلدين الكبيرين قدرة على ضبط الاندفاعة الكورية الشمالية، لأن هذه الاندفاعة ستضرُّ حكماً بمصالح موسكو وبكين، وقد تُشكِل خطراً على أمن البلدين في المستقبل، لأن حماسة القادة الجُدُد في بيونج يانج ليس لها حدود رادعة، وفائض القوة التي يمكن أن تصحو عليه كوريا الشمالية؛ قد يشكِل خطراً على أعدائها وحلفائها بذات القدر.
أما الولايات المتحدة الأمريكية؛ فليست قادرة على تجاهل قوة الثنائي الصيني – الروسي، وإمكانية احتضان هذا الثنائي لكوريا الشمالية فيما لو تصاعد التوتر، أو في حال وصلت الأمور إلى حد الصدام. الصين ليست راغبة في حصول الصدام مع الولايات المتحدة، وروسيا أبعد قليلاً عن اللهيب الشرقي، ولكنها لا يمكن أن تتساهل مع اجتياح أمريكي للمنطقة برمتها.
شيء من توازن الرعب بدأ منذ الآن يفرضُ قيوداً على التحركات الدولية في أقصى الشرق.

اقرأ أيضاً بقلم د. ناصر زيدان (الخليج الإماراتية)

واشنطن وبكين وبحر الصين الجنوبي

إدلب والحسابات الاستراتيجية الدولية

مصر والتوازنات الاستراتيجية الجديدة

موسكو تحصد نجاحات غير متوقعة

قرية «بانمونجوم» ومستقبل المخاطر النووية

العدوان المتجاوز كل الحدود

سكريبال والحرب الدبلوماسية الساخنة

عن العقيدة السياسية للدول الكبرى

لماذا صواريخ «إس 400» في جزيرة القرم؟

روسيا في العام2017

الحوار الأوروبي الإفريقي والقنابل الموقوتة

استراتيجية روسية جديدة في الشرق الأوسط

استفتاء كردستان ليس حرباً عربية – كردية

أفغانستان الجريحة

مؤشرات التطرُّف المُقلِقة

أخطر مُربع في الصراع

الموصل مدينة العذابات الكبرى!

واشنطن وبيونج يانج و«الصبر الاستراتيجي»

جُزُر الكوريل وتوترالعلاقات الروسية اليابانية

إعادة خلط الأوراق في العلاقات الدولية