“الأنباء” تستطلع الآراء حول الإعدام: ثأر أم قصاص؟

تتعدد طرق القتل، ولكن الموت واحد، أما عقاب القاتل فيبقى متأرجحاً بين القوانين الوضعية والشرع والتحريم والحظر الدولي بشرعة حقوق الإنسان! فالبحث بتطبيق قانون الإعدام كـ”عقاب ينهي حياة شخص” يأخذنا إلى مواقف وتحاليل متباينة لهذا الحكم العائد إلى شريعة حمورابي “العين بالعين والسن بالسن” رغم اعترافنا بتعددية وجوه العقاب في قوانين الطبيعة بشكلٍ عام.ففكرة العقاب في أساسها مفهوم إلهي رادع. حيث أن الأقدمين الذين عبدوا الأصنام وتعددت آلهتهم بين الشمس والقمر وصولاً لوحدانية الله، كانوا يخشون الوقوع في الجرم خوفاً من عقاب يأتيهم بظواهر ما وراء الطبيعة أو بقصاص سنته الشرائع البدائية التي كانت توضع بمزاجٍ متقلِّبٍ لفرعون أو لأي حاكم أو إمبراطور ومن ثم ملك، وإلى ما هنالك من تسميات وتفسيرات سبقت وضع الدساتير والقوانين الوضعية الحديثة التي تراعي بمعظمها شرعة حقوق الإنسان.
والمهم بحثه هنا، هو تداعيات تطبيق أحكام المادة 549 في قانون العقوبات اللبناني ببنودها التي تحكم بقصاص هو عبارة عن فعل لا يمكن تصحيح مفاعيله في حال التنفيذ، فيما يقف التاريخ شاهداً على أخطاءٍ وقعت بحق أبرياء نُفذت عليهم الأحكام الجائرة!

حمواربي

إلا أن صيحات المطالبين بتطبيق عقوبة الاعدام قد ارتفعت وتيرتها مع ازدياد فظاعة الجرائم في الآونة الأخيرة. أمام هذا الواقع طرحت “الأنباء” سؤالها استطلاعاً للرأي العام حول “تأييدهم أو رفضهم لتطبيق الإعدام في لبنان”، فاحتدم النقاش بين مؤيدٍ ورافض بحججٍ متباينة وتحليلات تنوعت بين الآراء المبنية على العاطفة والغضب. فهناك من يحركه التوق للثأر ويرى أن الإعدام للجاني حياة للمجتمع،  بينما يستند البعض لمنطقٍ إنساني يرفض مقابلة الجريمة بجرمٍ مماثل، ويقول أن الخالق وحده يملك صلاحية إنهاء حياة الفرد!

وفي ذات السياق، يرى البعض بأن “الحكم ملح الارض”، وأن الإعدام له قوانينه التي يجب أن تُطبق على من يستحق كالقاتل المتعمِّد مع أخذ خصوصية كل قضية بعين الإعتبار. لكن بعض الآراء المتقدمة طرحت في البحث هواجس التسييس للقضايا. باعتبار أن اقرار تطبيق عقوبة الإعدام قد يفتح الباب واسعاً أمام من يستفيدون من تفلت الأحكام بالإعدام اقتصاصاً من بعض الأفراد خدمةً لجهات سياسية! ويسأل بعضهم: “ألا يجب إصلاح الفساد في النظام، ومحاربة الفقر والتشرد حتى تتوقف الجرائم؟” وهناك من يشدد على أن الإعدام والقصاص يجب أن يبدآ بالمفسدين من أهل الحكم قبل الشعب! وبين هؤلاء برزت مواقف ملفتة. حيث طالب البعض بمحاسبة رجال السلطة قبل الشعب باعتبارهم المسؤولين الحقيقيين عن كل الجرائم بسبب حماية أزلامهم المجرمين والخارجين عن القانون وتزويدهم بتراخيص عشوائية لحمل السلاح! بينما رأى البعض أن القانون لن يكون عادلاً ما لم يُطبق على الجميع، موضحاً أن المطلوب أولاً هو إصلاح الجسم القضائي وتنظيفه من المحسوبيات والفساد.

 

court-hammer

من هنا يطرح السؤال نفسه: هل يكون الإعدام قصاصاً أم ثأراً يشفي غليل الحقد انتقاما لروحٍ رحلت ولن تعود؟
وهل يصحح الإعدام الخطأ الذي ارتكبه الجاني؟ أم أن منفذ الإعدام بحق القاتل يرتكب نفس جريمته بحجةٍ قانونية؟!

في الواقع، يجب أن ينطلق البحث لهذه العقوبة القاتلة من مفهومنا للقصاص. فهل هو بغرض إصلاحي أم كيدي؟ وهنا يتوسع النقاش حكما إلى حال السجون التي تُخرّج في الغالب مجرمين يتضاعف إجرامهم بدلاً من تحويلهم لأشخاصٍ مفيدين اجتماعياً بأنشطة تدريبية وعلاج نفسي يؤهلهم لمواجهة التحديات وتغيير المسار من الإنحراف إلى الصراط المستقيم!

في واقع الحال اللبناني، كان الغضب سيد الموقف في تعليق معظم المشاركين باستطلاع  “الأنباء” الذين علقوّا المشانق للمجرمين مطالبين بتنفيذ أحكام الاعدام دون رحمة حتى يتم ضبط الفلتان الأمني الواقع بقوة الترهيب. لكن الآراء إذ تقاطعت بتأييد البعض للقولين “وبشر القاتل بالقتل..” و”داوها بالتي كانت هي الداء”، واجههم آخرون بالرفض باعتبار أن “الرب يمهل ولا يهمل ومن يؤمن بعدالة السماء لا يدين كي لا يدان”.

ويدافع هؤلاء عن موقفهم شارحين أن الإعدام هو “اتخاذ القرار بقتل شخص ما”. وهو في حقيقته “جريمة قتل” لا تشكل عقوبة رادعة، فضلاً عن كونه وسيلة غير حضارية، لا بل جريمة مضافة تنفذها العقول المتخلفة، لأنه لا يجوز معاقبة الجريمة بجريمةٍ أخرى منعاً لانتهاك حقوق الإنسان واحتراماً للحياة التي هي هبة من الله.

هؤلاء يطالبون باستبدال الإعدام بعقوبة السجن المؤبد مع الأشغال الشاقة لأنهم يرون فيها قصاصاً أكثر فائدة من عقوبة الإعدام، لكنهم يشدّدون على أن القضاء يجب أن يحصّن تطبيق عقوبة “السجن المؤبد” كي لا يشملها أي عفو لا من رئيس الجمهورية ولا مجلس النواب.

Detained - 3D Prison

ويضيف هؤلاء أنهم يخشون استسهال تطبيق الإعدام، فيذهب الأبرياء ضحايا المؤامرات لتنفيذه استنسابياً على قاعدة “ناس بسمنة وناس بزيت”. خاصةً أن القضاة يُعينَون بواسطة من بيده الحل والربط في لبنان، وعليه فإن العدالة لن تكون كاملة حين تقتصّ من أرواح بريئة بأحكامٍ مشبوهة، فيتحول تنفيذ الحكم بهذه الحالة إلى جريمة تُنفذ بغطاءٍ قانوني•

ولا بد من الإشارة هنا إلى أنه في التوصيف القانوني العادي يعتبر حكم الإعدام “عقوبة الموت”. أي قتل شخص بإجراءٍ قضائي. ولقد أخذ القانون اللبناني الصادر في العام 1943 وتعديلاته بإنزال هذه العقوبة على بعض الجرائم الخطيرة جداً.
وفي العام 1994 صدر القانون رقم 302/1994 الذي أنزل عقوبة الإعدام في القتل العمد والدافع السياسي، وبمن يقتل إنساناً عن قصد ومنع منح فاعل الجريمة الأسباب المخففة. لكن هذا القانون أُلغي بالقانون رقم 338/2001، وأعيد العمل بالمادتين 547 و548 اللتين تعاقبان على القتل القصدي بالأشغال الشاقة المؤقتة أو المؤبدة وليس بالإعدام.

 

140903064116

أما هذا الواقع القانوني المتردد بتنفيذ حكم الإعدام، لا بد أن نتوقف عند مضمون المادة 43 عقوبات التي قد تعطي استنسابية مؤكدة بتنفيذ الحكم بنصها الذي جاء فيه: “لا يُنفّذ حكم الإعدام إلا بعد استطلاع رأي لجنة العفو وموافقة رئيس الدولة.” فكيف سنضمن العدالة بين الموافقة أو الرفض؟! خاصة أن الشعب لا يثق بنظافة الأحكام من التدخلات السياسية؟!ولا شك أن التوقف عند المادة 163 التي تقول أن “مدة مرور الزمن على عقوبة الإعدام والعقوبات الجنائية المؤبدة خمس وعشرون سنة”. ما يعني أن من يهرب من تنفيذ الحكم طيلة هذه المدة تسقط عنه العقوبة وينجو بفعلته!
فأين ستتحقق العدالة بين مجرم يسلّم نفسه أو يتم القبض عليه وإنزال العقوبة بحقه، وبين آخر ينفذ الجريمة نفسها لكنه يبقى حيا بفعل مرور الزمن على جريمته؟!

وما الفائدة من أحكامٍ ترفع سقف العقوبة وتبقى السلطات عاجزة عن تطبيقها خاصة في ظل التدخلات السياسية السافرة بالسلطة القضائية؟!

وعليه، لا بد لنا أن نسأل: كيف تتحقق فكرة العقاب العادل بقصاص هو عبارة عن ارتكاب جريمة القتل، خاصةً بوجود الفرق الشاسع بين الجرائم السياسية والإرهابية والمجتمعية والفردية؟!

f4f929faef

هل خطر ببالكم يوماً أن المرء يولد صفحةً بيضاء وأن المجتمع ككل مسؤول عن تحول الفرد إلى العمل الجرمي، وأن المجرم يرتكب جريمته بإسمنا جميعاً؟ هل فكرتم يوماً بأن الضحية الأولى في كل جريمة هو المجرم مرتكب هذا الجرم قبل ضحيته، وذلك لأنه لو قُدِّرَ له أن يولد وينشأ في بيئة وظروف مختلفة وفي كنف عائلة توجهه للخير لما طغى فيه الوحش على الإنسان؟!

مهلاً، أوليس غريباً أن يصدر قانون تطبيق الإعدام في لبنان في العام 1994، أي بُعيد الانتهاء من الحرب الأهلية الدموية البشعة؟ كم جريمة ارتُكِبَت بحق الإنسانية بدون وجه حق؟ وكم من حكم بالإعدام قد نُفّذ في لبنان بحجة الثأر؟ وبكيديات سياسية ودينية ومناطقية وحزبية؟ ألم نحكم بالإعدام على بعضنا بعضاً؟ فهل تحققت العدالة آنذاك؟ وهل دُفِنَت الأحقاد؟ وهل بنينا وطناً؟

في الحقيقة، إن بحثنا في أعماقنا عن إجابات صائبة لهذه التساؤلات، سنتوقف حكماً عند مفهومنا لتوصيف الجرم. ومن ثم سنفكر أكثر قبل أن نرتكب جريمة مماثلة بالقتل بشرعة القانون!

فالعقاب لن يكون مثمراً ما لم يكن هادفاً… والهدف الأسمى يبقى “الإصلاح”! فهل يحمل الإعدام ركن الإصلاح؟ بالطبع لا، وهو إن كان رادعاً، فلن يدوم إلا مؤقتاً. لأن الجريمة لا تُردَع بالخوف والترهيب، بل بالغاء مسبباتها وبإقناع المجرم بأنها خطأ. وهذه المهمة  مسؤوليتنا جميعاً كمجتمع قبل دور القضاء الذي يجب أن يكون عادلاً وموجها للثواب لا مصدرا لأحكامٍ قاتلة!

(*) هلا ابو سعيد – “الأنبـاء”