أبعد من قانون الإنتخاب!

أنور ضو

أبصر قانون الانتخاب النور أو يكاد، وإرتاح واضعوه بعد شهور من الكر والفر للفوز بعدد أكبر من المقاعد لهذا الفريق أو ذاك. فهل سيرتاح البلد مع نتائج هذا القانون؟

لقد عانى لبنان كثيراً من النظام الطائفي الذي أفرز إمتيازاً لطوائف وغبناً لأخرى، وأدى إلى انفجار حرب أهلية استمرّت خمسة عشر عاماً، تداخلت فيها العوامل الداخلية والخارجية، وما كان لها أن تنفجر لولا هذا النظام الطائفي الرجعي والمتخلف.

أنهى إتفاق الطائف الحرب، وكان التحفظ الوطني عليه كونه إتفاقاً طائفياً لم ينقذنا من الطائفية وآثارها المدمرة على المجتمع والوطن، إلا أن فسحة الأمل التي أتاحها هذا الإتفاق هي تشكيل الهيئة الوطنية لإلغاء الطائفية السياسية، وصولاً إلى إنتخاب مجلس نيابي خارج القيد الطائفي، وإستحداث مجلس شيوخ لإدارة القضايا الوطنية الكبرى ذات الحساسية الطائفية.

الطائف

وقد إعتبر يومها أن إلغاء الطائفية السياسية مسار وليس قراراً. فأين وصل هذا المسار بعد مرور أكثر من ربع قرن على إتفاق الطائف؟ منعت سلطة الوصاية التلاقي بين اللبنانيين وأعاقت تشكيل الهيئة الوطنية لإلغاء الطائفية السياسية، وعند خروج الجيش السوري من لبنان كان الأمل كبيراً بتوحيد اللبنانين تحت راية الاستقلال الثاني، إلا أن الوصاية إستمرت بحلفائها وأتباعها، وتعمق الانقسام، الذي بدأ يتردى من الطائفية إلى المذهبية، لا سيما بعد ارتفاع وتيرة المطالبة بما يسمى حقوق المسيحيين، وصارت المذهبية تُمارس بشكل علني ووقح في المؤسسات الدستورية، وفي الوزارات والإدارات والمؤسسات العامة ووسائل الإعلام، وحتى في المدارس والجامعات، دون أن ننسى الأحزاب والجمعيات ومؤسسات المجتمع المدني وكل جوانب الحياة العامة والخاصة، وصار الفساد يرتكب دون أي خجل أو خوف طالما أنه يحظى بحمايات الطوائف والمذاهب والأحزاب التي تمثلها.

كنّا قد أملنا بوضع قانون انتخاب عصري على أنقاض قانون الستين ينتشلنا من هوة هذا المستنقع الطائفي الذي يمزق الدولة والمجتمع، ويفتح دروب الهجرة أمام شبابنا اليائس، ويؤسس لموجة حروب جديدة، إلا أننا صدمنا بقانون مفصلٍ على قياس الطوائف، لم يلتفت إلى آمال الأجيال الجديدة التي تعتبر أن المطلوب من قانون الانتخاب الجديد هو الوصول إلى دولة تقوى على تأمين حقوق المواطن، لا حقوق الطوائف، وأن الشباب من كل الطوائف لا تصله حقوقه بمجرد أن ينال هذا المتطاول الطائفي على السلطة أو ذاك، عدداً أكبر من المقاعد تخدم طموحاته الرئاسية أو الوزارية أو ما شابهها، بل بإنتاج سلطة وطنية تساوي بين المواطنين وتجسّد طموحاتهم في الحرية والعدالة وتكافؤ الفرص، وتأمين فرص العمل، وتحسين الأوضاع الاقتصادية والاجتماعية، ووقف هجرة الشباب.

لم يحارب كمال جنبلاط والحركة الوطنية الامتيازات الطائفية على قاعدة طائفية، بل وفق أسس وطنية تستهدف توزيع السلطة والثروة على قاعدتي الجدارة والمساواة.

الحركة الوطنية وكمال جنبلاط

الذين أحسوا بتراجع امتيازاتهم لم يتعلّموا من دروس الحرب أن ما ينقذهم وينقذ البلد هو المواطنة لا الطائفة. فاندفعوا بلغة طائفية ممجوجة إعتقدنا أنها صارت من الماضي بعد ما حملته لنا من المصائب والويلات، وراحوا يخاطبون الغرائز والعصبيات، وعملوا جاهدين على تكريسها في قانون الانتخاب.

لم يعد هناك من مبرّرٍ برأينا لتأخير تشكيل الهيئة الوطنية لإلغاء الطائفية السياسية لكي يبدأ المسار المعاكس لما هو قائم حالياً. الأحزاب اللاطائفية، والزعامات والشخصيات الوطنية، وهيئات المجتمع المدني مطالبة بتقديم هذا المطلب على سواه، وبالنضال المستمر حتى تحقيقه، لنبني دولةً عصريةً لأحفادنا، بعد أن فشلنا في بنائها لأبنائنا. كفانا صراعاً من أجل حقوق الطوائف فيما نحن كمواطنين نعجز عن تحصيل أدنى حقوقنا في الحياة الحرة الكريمة.

إنقساماتنا الطائفية جعلتنا مطيةً للأطماع الخارجية وأدواتٍ للفتن والحروب. فهل سنستيقظ قبل أن تخرب البصرة بالكامل، أم سنكمل الانحدار نحو الهاوية التي جرّنا إليها هذا النظام الطائفي البالي وحماتُهُ التاريخيون؟

(*) المدير العام السابق لتعاونية موظفي الدولة

(الأنباء)