رسائل ترامب … وبداية النهاية

عرفان نظام الدين (الحياة)

ستبقى أصداء الضربة الأميركية على قاعدة الشعيرات الجوية السورية، حتى إشعار آخر، هي الحدث الأهم والأخطر منذ اندلاع الحرب السورية عام ٢٠١١، وستتوالى ردود الفعل والمضاعفات والانعكاسات يوماً بعد يوم لتزيد من التعقيدات التي لم تشهد المنطقة مثلها من قبل.

وكان موقف الولايات المتحدة مدار أخذ ورد، وصعود وهبوط، وتصعيد وتبريد، وتطمين وتهديد، ما أدى إلى إطلاق صفات على الرئيس السابق باراك أوباما، لا تليق برئيس دولة عظمى، تتراوح بين الجبن والتردُّد والتراجع عن تصريحات وسحب تهديدات والتخلي عن تعهدات.

وواكب أوباما منذ اليوم الأول أحداث ما سُمّي بالربيع العربي التي دُعمت بزعم المطالبة بتبني الديموقراطية، وبدأ الضغط على الرئيس التونسي الأسبق زين العابدين بن علي ثم على الرئيس المصري الأسبق حسني مبارك لإجبارهما على التنحي، ثم ألحق بهما الرئيس الليبي الأسبق معمر القذافي، ولكن بالعنف والقصف… إلى أن قُتِل شرّ قتلة.

أما بالنسبة إلى سورية، فقد بدأ الموقف الأميركي العدّ التنازلي في شكل تدريجي تمثَّل بالمطالبة بتنحّي الرئيس بشار الأسد ثم بالتراجع عنه بعد الحصول على صفقة التعهُّد بتسليم ترسانة الأسلحة الكيماوية، وصولاً إلى الدعوة لمشاركته في المرحلة الانتقالية وفق اتفاق جنيف.

وعندما استنفر أوباما قوّاته وهدّد بشن الغارات وقصف القواعد والمطارات السورية كان واضحاً انه لن يقدم على تنفيذ تهديداته الجوفاء، وعبرتُ عن ذلك بالاستشهاد ببيت الشعر الشهير:

زعم الفرزدق أن سيقتل مربعاً/ فأبشر بطول سلامة يا مربع

وبالفعل، تراجع الرئيس السابق وجرى إرضاؤه بهدية الأسلحة الكيماوية، وبقي حتى آخر عهده صامتاً إلى أن رحل وجاء ترامب ليكمل موقفه ويعلن أن إدارته لا تضع في أجندتها مسألة تنحّي الرئيس السوري.

ولم تمض أيام قليلة حتى انقلب موقفه رأساً على عقب، ووجّه ضربته الصاروخية متذرّعاً بالاتهامات المتعلّقة باستخدام الأسلحة الكيماوية ضد المدنيين في مدينة خان شيخون، ما أدى إلى تغيير مفاعيل اللعبة وقواعد الاشتباك لتدخل الولايات المتحدة طرفاً معلناً في الحرب… وفي مستقبل السلام.

بهذا تكون الحرب السورية قد دخلت ذروتها ووصلت إلى مفترق طرق يطرح تساؤلات عن أبعاد ما جرى وانعكاساته، ليس على الساحة السورية وحسب بل على امتداد المنطقة والعالم، وبصورة خاصة على العلاقات الأميركية الروسية. ولهذا يمكن القول إن هذه الحرب ليس لها مثيل من حيث التعقيدات وتشابك المواقف والمصالح واتساع رقعة المعارك وحجم التدخّلات، بحيث لم يبق أحد في العالم إلا وشارك أو أدخل أصابعه ومد يده ليرش الملح على الجروح السورية ويساهم في القتل والدمار والقصف.

ونحتاج إلى مجلد لتعداد الدول والجهات المتورّطة في الحرب السورية من الرسمية والحليفة إلى الأكراد والتنظيمات الإرهابية والفصائل المسلحة في الداخل والقوى الإقليمية من إيران وتركيا وإسرائيل وبعض الدول العربية و «حزب الله» والتنظيمات الشيعية العراقية والأفغانية والباكستانية، وصولاً إلى الدول الأجنبية، وفي مقدمها الولايات المتحدة وروسيا اللتان استغلتا الحرب لتأمين مصالحهما وإقامة القواعد وتقاسم الحصص والامتيازات والعقود النفطية والاستعداد لحصاد عقود إعادة الإعمار.

وعندما وقعت ضربة ترامب الأخيرة، تركّزت التساؤلات على النقاط التالية:

– هل هي ضربة محدودة أم أنها مقدّمة لضربات أكبر وتدخّل سافر يكرس ما جرى تأمينه من وجود في شمال سورية؟

– هل ستؤدي هذه الضربة إلى مواجهة عسكرية أميركية- روسية قد تصل إلى حافة حرب عالمية ثالثة انطلاقاً من سورية، على رغم أن هذا الاحتمال مستبعد لأسباب كثيرة؟

– هل يُعَدّ ما حدث بداية النهاية للحرب السورية، أم أنها سترسم نهاية جهود السلام واتفاقات جنيف وآستانة؟ أم أنها ستهدّد سلامة سورية كما نعرفها وتتكوّن بداية النهاية لوحدتها ليجري تنفيذ المؤامرة الرامية إلى تقسيمها وتثبيت الحدود الراهنة التي رسمتها ميادين المعارك؟

وبالطبع، فإن الأجوبة الواضحة والحاسمة على هذه التساؤلات لا يمكن أن تتضح وتحسم حتى ينقشع غبار الجولة الجديدة التي دخلت فيها الولايات المتحدة بقضها وقضيضها إلى قلب اللعبة القذرة. إلا أن ما بدا واضحاً هو أن الرئيس ترامب انقلب على مواقفه المعلنة أيام تهديدات أوباما، ثم في حملته الانتخابية، ما يدفعنا إلى انتظار كل الاحتمالات والقرارات المتناقضة والمتغيّرة بين ليلة وضحاها.

فقد أراد الرئيس الأميركي توجيه رسائل عدة في ضربة واحدة، وطبّق المثل الشعبي الذي يتحدث عن عريس أراد أن يخيف عروسه في ليلة الدخلة بقطع رأس القط أمام عينيها.

هذه الرسائل، التي قال إنه يوجّه أهمها إلى سورية، أراد من خلالها إيصالها إلى عدة دول، روسيا أولاً ومن ثم إيران وكوريا الشمالية وأي دولة أخرى يرى فيها تهديداً، وفق مزاجه. يُضاف إلى ذلك رسالة أراد توجيهها إلى الداخل الأميركي بعد سلسلة نكسات لقراراته الخاصة بالهجرة والتأمين الصحي ليظهر أمام الشعب الأميركي أنه قادر على الحسم واتخاذ القرارات الصعبة.

إلا أن أخطر ما في ضربة ترامب تركيزه على أن قراره اتُّخذ لحماية الأمن القومي الأميركي لينصّب نفسه «شرطي العالم» ويعيد إلى الولايات المتحدة هيبتها التي دمّرها أوباما ويستعيد دورها كقوة عظمى أساسية إن لم تكن الأولى بين مثيلاتها.

هذا الموقف المعلن اتُّخذ بعدما أحاط الرئيس الأميركي نفسه بصقور المساعدين وجنرالات يؤمنون بوجوب استخدام القوة وعدم التهاون في مسألة التفوُّق الأميركي. وهو موقف خطير لأن مفهوم «الأمن القومي الأميركي» عبارة مطاطة قد تشمل أي شأن أو موقف أو وضع عالمي يرى فيه الأميركيون أنه يشكّل خطراً وتهديداً لأمنهم، كما قد يشمل أي دولة أوعمل وموقف تتخذه، خصوصاً أن ترامب كان قد حدد سلفاً عناوين سياسته، وأولها: أميركا أولاً والتحكُّم بثروات النفط والغاز في المنطقة والعالم.

ومن المؤكد أن روسيا التي سبقت الولايات المتحدة إلى مستنقع الحرب السورية تعيد حساباتها اليوم لتدرس أبعاد الضربة وتحدد موقفها منها، وفق منهجين: الأول بالتصعيد وتقديم مزيد من الدعم لسورية وبالاتصالات السرية لنزع فتيل التوتر، وهو ما ابتدأ فعلاً باتصالات وزيري خارجية البلدين. فقد جاءت التطورات الأخيرة لتفرض على روسيا إعادة النظر بحساباتها ورسم سياسة جديدة للتعامل مع الواقع بحكمة، بعدما ظنت أن الأمر قد استتب لها، فهي غير مستعدة للدخول في مواجهة ساخنة ربما تحولت إلى حرب مكلفة وتحمل مزيداً من العمليات الإرهابية في أراضيها وخارجها. وهناك أسباب أخرى تفرض وقف التصعيد بينها الوضع الاقتصادي وعودة التظاهرات الشعبية ضد الفساد وللاحتجاج على الغلاء والتقشف.

لهذا يُتوقّع رجحان كفة العودة إلى الأحجام الطبيعية لكل دولة بعدما استغل بوتين الفرصة السانحة المتمثّلة بضعف أوباما وتراجع دور الولايات المتحدة ليضرب ضربته في أوكرانيا ويضم القرم أولاً، ثم في سورية ليؤمّن مصالح روسيا ويقيم قواعد دائمة ويتحوّل مع الأيام إلى قيصر لا يحكم روسيا فحسب، بل يطمح إلى حكم العالم.

وتشير الدلائل إلى أن التهدئة ستحصل بعد قليل من التصعيد، وبعده تنجح الاتصالات السرية تمهيداً لقمة منتظرة قريباً بين ترامب وبوتين على هامش قمة الدول السبع.

إلا أن من يعرف شخصية بوتين يحذّر من إقدامه على المواجهة ونشر ما يملك من وثائق سرية يقال إنها تتضمن فضائح جنسية لترامب، يضاف إليها أسرار اللقاءات السرية بين مساعدي الرئيس الأميركي والاستخبارات الروسية خلال حملته الانتخابية ودفع ثمنها عدد من المستشارين.

مع هذا، فإن بوتين لا بد أن يقتنع بأن رقصة الـ «تانغو» تحتاج إلى شخصين، لأنه لن يتمكن من رد الضربة مباشرة والدخول في مواجهة ساخنة. في المقابل، لا بد من أن يقتنع ترامب بأن ما كان يقال من أن الولايات المتحدة ستكون القوة العظمى الوحيدة التي ستحكم العالم لفترة طويلة، لم يعد ممكناً وأنه غير قادر على تجاهل القيصر وطموحاته ودور روسيا المتنامي.

هذه الواقعية السياسية قادرة لوحدها على تجاوز أخطار الأزمة الراهنة والاتجاه إلى البحث عن عن حلول سلمية للأزمات والحروب المشتعلة في المنطقة، وأولها الحرب السورية، علماً أن أي اتفاق بين القطبين سيكون على حساب العرب ومصالحهم ومستقبلهم بعد تقاسم النفوذ والمصالح ورسم حدود تقسيمية لأوطانهم.

وبانتظار جلاء الموقف، يبقى السؤال الملح الذي نردّده جميعاً هو: هل نحن نقف اليوم أمام بداية نهاية الحروب، وبينها حرب السنوات الست السورية وفق مقولة «اشتدي أزمة تنفرجي»؟ أم أنها نهاية البداية لحروب تبقى مشتعلة إلى أن تكتمل فصول المؤامرة بتقسيم سورية والدول العربية الأخرى، لا قدّر الله؟!