روسيا تحاصر نفسها في سورية

فلاديمير فرولوف (الحياة)

مفارقة غريبة أن يرتبط زئبق العلاقة بين الولايات المتحدة وروسيا باستخدام الأسلحة الكيماوية في سورية. ففي آب (أغسطس) 2013، بعد هجوم غاز السارين المروع الذي شنه الجيش السوري على الغوطة الشرقية وأودى بحياة أكثر من 1500 شخص، أوشك باراك أوباما على الأمر بضربات في سورية، لكنه قبِل عرض فلاديمير بوتين تدمير أسلحة الأسد الكيماوية تحت إشراف دولي. وتتواجه، اليوم، موسكو وواشنطن مرة أخرى، إثر الضربات الصاروخية الأميركية على قاعدة جوية سورية رداً على ما يبدو أنّه استخدام الأسد للأسلحة الكيماوية في 4 نيسان (أبريل) ضد مناطق المعارضة في إدلب. وأسفر الهجوم عن مقتل أكثر من 70 شخصاً، معظمهم من الأطفال.

وكان من المفترض أن تكون مكافحة داعش عاملاً يجمع أميركا وروسيا لإعادة إطلاق علاقتهما تحت قيادة ترامب، الذي أبدى بعض الاستعداد للعمل مع الأسد في مكافحة الإرهاب. وقبل أيام قليلة من الهجوم الكيماوي، اعترف البيت الأبيض ووزير الخارجية الأميركي، ريكس تيلرسون بـ «الواقع السياسي المتمثل ببقاء الأسد» في السلطة. ولكن الهجوم الكيماوي في إدلب غيّر كل شيء. وأحدث تحولاً جذرياً في موقف ترامب من سورية والأسد، وجعل من العسير عليه تجنب عمل عسكري ضد النظام السوري لمعاقبته وردع هجمات جديدة. وقال تيلرسون إن روسيا وإيران تتحملان المسؤولية الأخلاقية عن مقتل المدنيين في الهجوم. ودعا روسيا إلى إعادة النظر في دعمها للأسد، وفتح الباب أمام تغيير النظام في سورية. وهذا انعطاف كبير في مواقف ترامب يطيح آمال موسكو في تحسن العلاقات مع واشنطن. وعلى الكرملين اليوم أن يجد إستراتيجية جبه هذه المشكلة. ولحسن الحظ، لدى فلاديمير بوتين بعض الخيارات التي في وسعه اقتراحها على تيلرسون حين لقائه في موسكو.

والرد الأولي لروسيا على الهجوم الكيماوي كان دفاعاً كاملاً عن سلاح الأسد الجوي: القصف استهدف مصنع أسلحة كيماوية للمتمردين الذين عرضوا أشرطة فيديو عن أطفال ماتوا جراء التعرض لغاز السارين. وجلي أن الهجوم أخذ موسكو على حين غرة، إذ فشل أصدقاء روسيا في سورية في اطلاعها على الغارة قبل حدوثها. ورداً على هجوم ترامب الصاروخي على سلاح الأسد الجوي، نحت روسيا إلى تشدد خطابي، ولكن ردها كان محدوداً. ووصفت موسكو الضربة بالعدوان على دولة سيدة، وعلقت العمل بالاتفاق العسكري مع أميركا، وهو يساهم في تجنب حوادث في المجال الجوي المزدحم في سورية. وواشنطن أبلغت موسكو من طريق آليات هذا الاتفاق، بالضربة قبل حصولها. وقد تعزز روسيا أنظمة الدفاع الجوي في سورية لعرقلة العمليات الأميركية هناك، ولكن هذا لن يغير في الأمر شيئاً. ولا يخفي موسكو أن الذي حصل هو هجوم أحادي لإثبات صدقية واشنطن في التزام المعايير الدولية الحيوية. وإلى اليوم، تدافع روسيا عن النظام السوري، ولكن هذه المرة قد يكون الأسد تمادى، ولم يحترم بوتين وجعله يبدو عاجزاً عن ضمان اتفاق الأسلحة الكيماوية مع واشنطن أو متواطئاً معه في انتهاك الاتفاق. وأهان الأسد بوتين أمام ترامب وجعله يبدو ضعيفاً، وهو أمر يحمله الزعيم الروسي محمل جد.

ويشعر الروس أن الأسد ربما يحاول عمداً إطاحة مسار آستانة الذي أدلت فيه موسكو وأنقرة بنفوذها السياسي، في وقت يريد الأسد وطهران انتصاراً عسكرياً كاملاً، عوض ترتيب يقضي بتقاسم السلطة مع المتمردين المهزومين. فالرئيس السوري والإيرانيون غضبوا من انفراد أنقرة وموسكو بالحل. وسينتظر بوتين زيارة تيلرسون لتقييم الخيارات المتاحة، وما إذا كان من الأفضل لروسيا معاقبة الأسد تحت راية اللعبة الكبرى مع ترامب. ووضع بوتين الآن أفضل مما كان عليه في 2013، حين كان يحاول يائساً منع الضربات الجوية الأميركية ليتفادى الظهور في مظهر العجز. واليوم لم يعد أمام واشنطن خيار عسكري فعلي ضد الأسد، ولم يعد لديها الرغبة في إطاحته بالقوة. والضربات كانت رمزية. وهذا ما يبقي حصة روسيا في سورية آمنة.

وما يُقلق موسكو هو احتمال توسيع ترامب ما ترمي إليه بلاده في سورية، فتنتقل من السعي إلى هزيمة داعش إلى سياسة أوسع تعمل على إنهاء الحرب الأهلية وإبرام تسوية سياسية. وهذا الاحتمال- وهو ضعيف الحظوظ- يقلق روسيا، وتحديداً إذا لجأ ترامب إلى القوة العسكرية لإنفاذ الاتفاقات ووقف النار. وإذا ألقى تحقيق الأمم المتحدة مسؤولية الهجوم الكيماوي على دمشق، في وسع بوتين أن يؤدي دوراً إنسانياً من طريق معاقبة الأسد برفق، ومنع الطلعات الجوية لطائراته. وليس ثمة حلب أخرى أمام موسكو، فلماذا لا تسعى إلى تقييد قدرات الأسد العسكرية لجعله أكثر قبولاً للتسوية والتفاوض. ومثل هذا الاحتمال يثير غضب الإيرانيين. لكنهم كانوا كذلك يديرون عرضهم الخاص خلف ظهر روسيا. إدارة ترامب وإسرائيل تريدان أن تنأى موسكو بنفسها عن إيران وأهدافها في سورية. وعليه، قد يكون إبلاغ تيلرسون بأن روسيا تدعم أميركا في ملف إيران هو الأمثل. أما في الشأن الإسرائيلي، اعترفت روسيا بالقدس الغربية عاصمة لإسرائيل، وتفوق موقفها الجريء هذا على مواقف ترامب.

* محلل سياسي، عن «موسكو تايمز» الروسي.