تأثير الانقسامات الداخلية على تحولات البلدان العربية/ بقلم: سمير فرنجية

نظرة بانورامية سريعة إلى تطور الأحداث في أكثر بلدان «الربيع العربي» منذ العام 2011 حتى الآن، تبيّن أنه كان للانقسامات المجتمعة تأثير كبير على ما آلت إليه الأمور. فهذه الانقسامات لم تتحكّم فقط في آليات الصراع الداخلي وأشكاله وحوافزه، بل كانت أيضاً المتّكأ الأساس لتدخّل القوى الإقليمية والدولية الكبرى وإدارتها الصراع وفق أجنداتها المختلفة، بحيث أفلت زمام هذا «الربيع» إلى حد بعيد من يد أهله. من وجهة نظر سوسيولوجية، وفي الإطار المفاهيمي، أعتقد أن أصل هذه الانقسامات يكمن في واقع التنوّع والتعدد في مجتمعاتٍ مركّبة بامتياز. من هنا تصبح الإشكالية الأساسية: هل علينا إدانة الاختلاف والتنوّع والتعدد، فنعمل بالتالي على إلغائه، وغالباً ما يكون الإلغاء عنفياً، أم علينا الإقرار بهذا الواقع واحترامه، وبالتالي العمل على إدارته إدارة رشيدة؟ إن مداخلتي هذه ستقارب هذه الإشكالية في عالمنا المعاصر ومنطقتنا العربية، مع التركيز على التجربة اللبنانية بإخفاقاتها ونجاحاتها، ودائماً في إطار مفاهيمي.

أولاً: إن التحدّي الذي يواجهنا اليوم في لبنان كما في العالم العربي يتلخص بالآتي: كيف نعيش معاً متساوين في حقوقنا والواجبات، متنوّعين في انتماءاتنا الدينية والإتنية والثقافية، ومتضامنين في سعينا المشترك نحو مستقبل أفضل لجميعنا؟

في أساس ما نشهده اليوم من تفشي العنف في منطقتنا وفيما يتعداها إلى الغرب، معطىً لم نكن ندرك أهميته، وهو التنوع الذي تتسم به مجتمعاتنا. وعدم الإدراك هذا جاء نتيجة سياسات الأنطمة الاستبدادية التي رأت في التنوع خطراً يتهدد سلطتها، فعمدت بطريقة منهجية، وبدعوى الحداثة أحياناً، إلى العمل على كسر مختلف أشكال التضامن في مجتمعاتها. فلم يعد هناك سوى ركام من أفراد، يسمى –على سبيل التفخيم– «شعباً يمثله حزب واحد، يتجسد بدوره في قائد أوحد. والكل في لبنان يتذكر أنه أثناء الاحتلال السوري، لم يكن مستحباً، في القاموس الشائع، أن يشير المرء إلى سوريا باسمها هذا، وإنما بعبارة«سوريا الأسد»، كما يتذكر ذاك الشعار الضخم الذي ارتفع عند تقاطع للطرق هو«الأشدّ ازدحاماً في العاصمة: «قائدنا إلى الأبد، حافظ الأسد»! ويمكن القول إن مجمل العالم العربي قد اختصر ببضعة أسماء وشعارات من هذا القبيل.

وتتشارك في ظاهرة الاختزال هذه كل الأنظمة التي بنت مشروعيتها على الإيديولوجيا، أكانت قومية أو دينية أو اجتماعية. ومثال الاتحاد السوفياتي والصين الشعبية خير دليل على المدى الذي يمكن أن يبلغه هذا الاختزال القسري بدعوى التماثل المجتمعي.

ثانياً: غير أن هذه الأنظمة الرافضة الإقرار بالتنوع في مجتمعاتها، عملت على استغلال التنوع في مجتمعات ودول أخرى لتأمين مصالحها بطريقة غير مشروعة.

فسوريا استغلت التنوع الطائفي في لبنان لإحداث نزاعات من شأنها أن تتيح لها فرض وصايتها على لبنان.

وإسرائيل التي تطلب من الجميع الاعتراف بيهودية الدولة العبرية، من دون أي اعتبار للتنوع القائم عندها، عمدت منذ زمن بعيد إلى ضرب النموذج اللبناني في العيش المشترك، باعتباره نقيضاً للنموذج الذي تسعى إلى فرضه، وذلك من خلال اعتداءات وحروب متكررة، فضلاً عن التدخل في الشؤون الداخلية اللبنانية، عملاً بدعوة تحالف الأقليات.

أما إيران التي تسعى لفرض نفسها ممثلاً للعالم الإسلامي في النظام الدولي الذي أبصر النور مع نهاية الحرب الباردة، فقد عملت على إنشاء «هلال شيعي» يدور في فلكها. ولقد تجسّدت هذه السياسة من العام 2003 حتى الآن في أربع حروب سعت إليها إيران بالتواطؤ مع النظام السوري: الحرب اللبنانية –الإسرائيلية في تموز 2006 ؛ استيلاء «حماس» على غزة العام 2007 ؛ استيلاء حزب الله على بيروت العام 2008 ؛ وحرب غزة بين إسرائيل وحماس عام 2009 وصولاً إلى التدخل في اليمن بدعم انقلاب الحوثي– صالح على الشرعية الدستورية.

ومع انتفاضة الشعب السوري العام 2011، وانخراط إيران في القتال إلى جانب النظام هناك، دخلت منطقتنا أتون حرب دينية تشبه إلى حدّ بعيد «حرب الثلاثين سنة» التي دمّرت المجتمعات الأوروبية من البلطيق إلى المتوسط، في مواجهات دامية ما بين الكاثوليك والبروتستانت إّبان القرن السابع عشر. ومما يعزّز هذا الانطباع، تلك المساعي الجارية لتشكيل «جبهة سنّية» شرق أوسطية في مواجهة «جبهة شيعية» تشكلت من مواقع النفوذ الإيراني أو ما يسمّى بلدان «الهلال الشيعي». إنّ هذه القسمة لا تعِدُ شعوب المنطقة، على اختلاف أديانها وأوطانها، إلا بخرابٍ عميم.

ثالثاً: ليس رفض الإقرار بالتنوع ظاهرة محصورة بمنطقتنا. فالحداثة الغربية المؤسّسةُ على تمجيد استقلالية الفرد، أوجبت انقطاعاً مع الانتماءات السابقة، بوصف هذا الانقطاع تحرّراً من عبودية الرابطة مع الآخر، ذلك أن الآخر لم يعد في هذه المجتمعات المكمل المنشود، وإنما أصبح منافساً وخصماً. وعليه لا يحقق الفرد ذاته الا بمواجهة الفرديات الأخرى. والواقع أن ذاك المفهوم لاستقلالية الفرد أخذ يتغير في الغرب نفسه. «خلال العقود الثلاثة الأخيرة سرنا حثيثياً، نحن الغربيين على طريق استقلالية الفرد».

كتب الباحث الفرنسي جان كلود غيبو، تلك الاستقلالية نبنت نظرًيا على مخالفة الروابط التقليدية في مجتمعنا، أكانت دينية أو اجتماعية أو عائلية. لقد أقمنا نموذجاً انتروبولوجياً لم يعرفه أي مجتمع قبلنا؛ وهو نموذج الفرد السيد المستقل. إنه حقاً لانتصار عظيم!. وأضاف: «مع ذلك، فإن شعوراً من الحزن والإقصاء والوحدة، يلازم هذه الاستقلالية حتى اليوم. لقد أخذنا نُدرك أن فرديتنا، التي ندين لها باستقلاليتنا الراهنة، قد ارتدت ضد الأفراد ما إن أصبحت عقيدة جامدة ومبداً منظماً (…). إن الفرد السيد المستقل الذي اخترعناه يعاني الآن اليُتم». بعبارة أخرى، أصبحنا ندرك إذاً أن الرابطة الاجتماعية، والثقافة الإنسانية، والعلاقات بين الأفراد هي في أساس وجود أي منا. علينا إذاً أن نعمل على تجاوز هذه المواجهة القائمة داخل الفرد الحديث: إما الاستقلالية الفردية أو الوصل مع الآخرين. نحن في حاجة إلى الاثنين معاً. الإقرار بالتنوع وما ينتج منه من «عيش مشترك» جاء في العام 2011 في وثيقة أعدتها مجموعة من القيادات الأوروبية بناء على تكليف من الأمين العام للمجلس الأوروبي وعنوانها «أوروبا العيش المشترك في القرن الـ21». لم تستخدم عبارة «العيش المشترك» في الأدبيات السياسية الأوروبية قبل صدور هذا التقرير، علماً أن أوروبا تحتضن اليوم حوالى 40 مليون مسلم، هذا عدا

الأديان والإتنيات القادمة من الشرق الأدنى والأقصى. لكن اتساع رقعة العنف وصولاً إلى أوروبا، دفع بتيارات سياسية في معظم بلدان أوروبا إلى رفض فكرة العيش المشترك وتبني مقولات متطرفة مثل «كراهية الأجانب» (Xénophobie) أو «رهاب الإسلام» (Islamophobie): في فرنسا مع تيار «الجبهة الوطنية» المعروفة بتطرّفها، في السويد مع يمين متطرّف يتميّز بعدوانية شديدة، في هنغاريا مع حركة تنتسب إلى النازية، في بلغاريا مع حزب ينادي رئيسه بـ«تحويل أجساد الغجر إلى صابون»، في اليونان مع حزب «الفجر الذهبي» ذي النزعة النازية…

رابعاً: الإقرار بالتنوع يبدأ بإقراره داخل الإنسان الفرد قبل إقراره داخل المجتمع.

فهوية الإنسان هي هوية مركّبة تحتوي انتماءات متعددة (عائلية، مهنية، وطنية، طائفية، ثقافية، إنسانية…) يحدد بعضها تاريخ المجموعات القائمة، يحتاج الاقرار بالتنوع الى صيغة سياسية تضمن عيشاً مشتركاً في المجتمع، وبعضها الآخر التكوين الطبيعي للبلاد (الساحل والجبل والسهل الداخلي) إضافة إلى عوامل أخرى، وهذه الهوية المركبة ليست تراكماً عشوائياً للانتماءات المتعددة، إنما هي تعبير عن خلاصة موّحدة للشخصية الإنسانية. ولا يتم انتقال الإنسان من دائرة الانتماء الصغرى إلى الدائرة الكبرى إلا إذا اطمأن إلى حضوره في الإطار الأوسع، واطمأن في الوقت ذاته إلى أن هذا الانتقال لن يجعله يفقد الإطار السابق.

إن اختزال الهوية بأحد مكوناتها يؤدي إلى إحداث فصل غير طبيعي بين دوائر الانتماء المختلفة للإنسان ويضعف تماسك شخصيته وتكاملها، ما يدفعه عند الأزمات إلى الهروب إلى دائرة أوسع أو أضيق من الدائرة المأزومة. والتجربة اللبنانية قدمت نماذج عن هذين الانفصام والهروب: فعندما تهتز دائرة الانتماء الوطني لدى الشخص، نراه يهرب إلى دائرة أوسع (قومية أو أممية) أو أضيق (طائفية أو عائلية أو مناطقية).

خامساً: يحتاج الإقرار بالتنوع إلى صيغة سياسية تضمن عيشاً مشتركاً بين مكونات هذا التنوع، فتجمع بين ما هو مشترك وبين ما هو خاص بكل مجموعة، فتربط تالياً بين المواطنة التي يعنى بها الجميع والتنوع الذي هو شأن كل جماعة من الجماعات. في الحالة اللبنانية، هناك صيغة وضعها اتفاق الطائف (1989)، وهو الاتفاق الذي أنهى الحرب اللبنانية. تربط هذه الصيغة شرعية السلطة بقدرتها على حماية العيش المشترك الذي يمثل أساس العقد الاجتماعي. ومفهوم الشرعية هذا جديد تماماً على وعي اللبنانيين، إذ بموجبه لم تعد الشرعية قائمة على إرادة الطوائف المتعاقدة في لحظة تاريخية معينة، بل أصبحت مؤسسة على واقع العيش المشترك، المتحقق والمتطور على الدوام. بعبارة أخرى لم تعد الشرعية مؤسسة على حدث تاريخي (لم يحدث أصلاً)، وإنما على واقع راهن. وأصبحت بالتالي عُرضة لمساءلة مستمرة حول مدى قيامها بواجب المحافظة على العيش المشترك. علماً أن هذا الواجب ليس عملاً يتمّ لمرة واحدة وإلى الأبد، بل هو مهمة قيد الانجاز الدائم.

وتتضمن هذه الصيغة إلغاء القيد الطائفي في المجلس النيابي وانشاء مجلس شيوخ تتمثل فيه الطوائف بصفتها تلك. بذلك يصبح الوزن الديموغرافي، أو التحالف مع الخارج تعويضاً عن النقص العددي، غير صالح للاستخدام من أجل تعديل حصة الطائفة في الدولة. ومن هذا المنظور لا تعود الطوائف في حاجة إلى اختراع «مشاريع خاصة»، ولا يعود ثمة موضوع للصراع في ما بينها على هذا الصعيد.

ومن خلال إلغائه المعيار العددي، يضع اتفاق الطائف حداً لمفهوم الأقليات اللبنانية، ويتيح إمكانات هائلة لتفاعلها بصورة أفضل. إذ تصبح كل طائفة جزءاً عضوًيا من «أكثرية ذات طبيعة تعددية»، هي مجموع اللبنانيين، وذات هوية مركبة، وغير قابلة للاختزال في أحد مكوناتها. بذلك لا يعود اللبنانيون مجموعة كيانات، بل كياناً واحداً. وهذا الكيان الواحد لا يقوم على إلغاء

التنوع وفرض الانصهار القسري، بل يقوم على الاعتراف بالتنوع واحترامه والمحافظة عليه.

وبكسره المنطق الأقلوي، يحرر اتفاق الطائف اللبنانيين من «عقدة الخوف من الآخر» التي تقع في أصل كل السياسات الطائفية. بذلك لا يعود الآخر خصماً ينبغي مواجهته باستمرار، لأنه يشكل خطراً وجودًيا دائماً على الذات، بل يصبح عنصراً مكمّلاً وضرورًيا للذات. إن هاجس الديموغرافيا لدى المسيحيين والدروز، وعقدة الاضطهاد التاريخي لدى الشيعة، وعقدة الكبت لدى السنّة، لشعورهم بأنهم أكثرية في العالم العربي وواحدة من أقليات ههنا… كل تلك العقد المعلومة لا تعود، من هذا المنظور الجديد، المحرك الرئيسي للتاريخ اللبناني، حيث تحاول كل طائفة أن تضع يدها على الدولة، أو على قسم منها، بذريعة توفير «ضمانات» لوجودها.

ومن خلال التزامهم هذا العقد الاجتماعي القائم على العيش المشترك، ينتقل اللبنانيون من وضعية «عضو في جماعة طائفية» إلى وضعية «مواطن» في دولة العيش المشترك. هذا لا يدعوهم إلى التخلي عن انتماءاتهم الخاصة أو هوياتهم الفرعية، أكانت طائفية أو مناطقية أو ثقافية أو غير ذلك، ولا عن انفتاحهم على عوالم مختلفة، أكانت عربية أو إسلامية أو غربية، ولا عن مرجعياتهم التاريخية الخاصة. على العكس من ذلك، فإن هذه الانتماءات المتنوعة مدعوّة لإغناء عيشهم المشترك بصورة متواصلة. إنها مساهمة كل منهم في المشروع الكبير.

سادساً: إن الإقرار بالتنوع يحتاج إلى التصدي لثقافة الفصل والإلغاء السائدة على نطاق واسع بثقافة أخرى هي ثقافة الوصل والانفتاح على الآخر. كيف تعبر هذه الثقافة عن نفسها في الحالة اللبنانية؟

– ثقافة الوصل والانفتاح على الآخر ترى أن حقوق المواطنين يجب أن تكون متساوية في المطلق، وترى أن الطوائف في لبنان هي جماعات يجب أن تحظى جميعها بضمانات متساوية، وأن حمايتها وحماية افرادها تأتي من وجود دولة توكل إليها مهمة توفير الأمن للجميع. أما ثقافة الفصل والإلغاء فتنظر إلى المواطنين بوصفهم مجرد أعداد متراصفة داخل طوائفها، وتنظر إلى الطوائف على أنها أقليات مهددة باستمرار في وجودها وحضورها الحّر، وبالتالي فإن على كل واحدة منها السعي إلى تأمين حمايتها بمعزل عن الآخرين وغالباً في مواجهتهم.

– ثقافة الوصل والانفتاح على الآخر تقوم على التعددية والانفتاح الثقافي والتفاعل، وهي قد طوّرت أسلوب حياة في لبنان لم يكن من السهل تحقيقه في أي مكان آخر، مقدمة بذلك مساهمة أصيلة في إغناء الحضارة العالمية، في سعيها الدؤوب إلى بيئة إنسانية أفضل. وهو أسلوب حياة يؤمن للإنسان فرصة التواصل والتفاعل مع الآخر، بحيث تغتني شخصيته من تلقيها جديد الآخر، وتغني هي بدورها شخصية الآخر، وذلك من دون إلغاء الخصوصيات والفوارق التي تصبح في هذه الحال مصدر غنى للجميع. أما ثقافة الفصل والإلغاء فتقوم على قسمة العالم إلى فسطاطين: خير وشر، إيمان وكفر، وهي تدفع الإنسان إلى الخشية من العيش مع الآخر المختلف وإلى الاصطفاف، بلا شروط، خلف القوى الأشد تطرفاً في بيئته، تارةً باسم المبادئ الكبرى، وتارةً باسم الإخلاص لانتماءات قومية أو طائفية أو حزبية ضيقة. هذه الثقافة في لبنان تستغل عاملي الكبت والخوف لدفع الطوائف إلى التماس «حمايات خارجية»، في محاولة لتعديل موازين القوى الداخلية، بدعم من الخارج ووفقاً لشروطه. هذا ما حصل في الأمس، وهذا ما هو حاصل اليوم.

إن أصحاب الذاكرة من اللبنانيين يفهمون جيداً معنى تلك التجربة الإنسانية المميزة. وهي تجربة لم تفتقر إلى شهادات معتبرة، لبنانية وعربية وأجنبية:

– ثقافة الوصل والانفتاح على الآخر تقوم على تنقية الذاكرة وطي صفحة الماضي على قاعدة الإقرار بالمسؤولية الجماعية والفردية عن خطايا الحرب، واعتبار جميع الضحايا شهداء الوطن، لئلا يبقى اللبنانيون – بمن فيهم الضحايا – فريقين: فريق خائن وفريق بطل. وهو جهد حاول بذله معظم اللبنانيين في السنوات الخمس عشرة الماضية لتجاوز الحرب وتنقية الذاكرة.

أما ثقافة الفصل والإلغاء فتتأسس على «ذاكرة انتقائية» تستحضر جرائم وتضرب صفحاً عن أخرى، بغية منع إعادة الوصل.

– ثقافة الوصل والانفتاح على الآخر تنظر إلى الدين كرابطة تجمع اللبنانيين، من خلال إيمانهم بأن الدين لله والوطن للجميع. أما ثقافة الفصل والإلغاء فتدّعي احتكار المقدّس والحقيقة، وتمنح نفسها الحق، باسم هذا المقدّس، في تعيين الخير والشر، وفي تكفير خصومها وتخوينهم.

– ثقافة الوصل والانفتاح على الآخر تنظر إلى الإنسان كقيمة قائمة بذاتها بمعزل عن انتماءاته المتعددة، وتدعو إلى احترام الآخر في تمايزه واختلافه، من دون السعي إلى الغائه أو استتباعه، ومن دون فرض انصهار يلغي خصوصيته أو توحد يختزل شخصيته ببعد واحد من أبعادها. أما ثقافة الفصل والإلغاء فتختزله بالجماعة، وتنكر عليه حريته وحقه في أن يختار طريقه خارج ما هو مرسوم له من قبل الجماعة التي ينتمي اليها. كلفت ثقافة الفصل والإلغاء اللبنانيين ثمناً باهظاً: 144240 قتيلاً، 17415 مفقوداً، و 197506 جرحى. هذا إلى تدمير مدنهم وقراهم، وهجرة مئات الألوف من أبنائهم، وتدني مداخيلهم، وانخفاض نوعية عيشهم! لقد دفعوا الثمن من لحمهم الحيّ، من قدرتهم على الأمل وأهليتهم للخلاص، ومن احترامهم لأنفسهم!

(*) مداخلة قدمت في  ورشة عمل من تنظيم «الشبكة العربية لدراسة الديموقراطية» و«معهد عصام فارس للسياسات العامة والشؤون الداخلية». عقدت في الجامعة الأميركية في بيروت في 17 – 18 آذار من عام 2016.
* نقلاً عن جريدة”المستقبل”