د. عباس أبو صالح في «دور الدروز في المنطقة»: مدخل إلى فهم علاقة هذا المذهب بالأوضاع الحالية في لبنان

يكتسب كتاب «دور الدروز في المنطقة» لمؤلفه الدكتور عباس أبو صالح أهمية خاصة في هذه المرحلة لكونه يفيد في فهم علاقة هذا المذهب وقادته والمنتسبين اليه بالأوضاع الحالية في لبنان، وإلى حد ما في سوريا. ويشمل القسم الرابع منه عرضاً مفصلاً لأزمة لبنان عام 1958 التي أشعلها آنذاك الخلاف بين رئيس الجمهورية، الزعيم الماروني كميل شمعون، وزعيم الدروز كمال جنبلاط. وكان الأخير قاد حراكا في شوارع لبنان ضد شمعون ومحاولته إقصاء خصومه الدروز والمسلمين الرافضين لتحالف الرئيس اللبناني وحكومته مع مشروع الرئيس الأمريكي (في الخمسينات) داويث ايزنهاور و«حلف بغداد»، علماً ان رئيس الجمهورية العربية المتحدة (المصري) في تلك المرحلة جمال عبد الناصر، أيد ماديا وسياسيا الزعيم كمال جنبلاط ورفاقه صائب سلام وعبد الله اليافي وحلفائهم في مواجهة شمعون.
وفي المرحلة الحالية من تاريخ لبنان، يعارض الزعيم الأبرز للدروز في لبنان وليد جنبلاط أي محاولات من جانب القيادة اللبنانية السياسية الجديدة لإقصائه عن زعامته عن طريق إقرار نظام نسبي للانتخابات.
غير ان الخلاف الحالي يكتسب أبعاداً إقليمية، وحتى دولية، بالنسبة لمصير لبنان في السنوات المقبلة، إذ يُعتبر جنبلاط من معارضي النظام السوري، فيما بعض القادة الدروز الآخرين على شاكلة طلال أرسلان ووئام وهاب وفيصل الداوود هم من المتعاطفين مع النظام السوري.
يذكر المؤلف ان كمال جنبلاط كان مؤيداً لشمعون في مطلع الخمسينات وانتخبه في انتخابات رئاسة الجمهورية لعام 1952، وأيد سياسته الخارجية حتى منتصف الخمسينات، ومن ثم اختلف معه عندما عارض شمعون مواقف الرئيس عبد الناصر بالنسبة لقناة السويس وملكيتها العربية ووقف الرئيس اللبناني إلى جانب السياسات الاستعمارية الغربية عموماً (خصوصا بريطانيا وفرنسا). واشتدت خصومة الزعيمين بعد إسقاط شمعون لجنبلاط في الانتخابات الاشتراعية اللبنانية لعام 1957 على إثر دفع الرئيس شمعون قوات الأمن الداخلي المحلية التدخل في هذه الانتخابات والضغط على الناخبين لعدم التصويت لجنبلاط في انتخابات دائرة الشوف التي تُعتبر معقلاً للدروز وحيث تُعتبر بلدة المختارة فيها شبه عاصمة للإمارة الجنبلاطية الدرزية هناك.
ويقول الكاتب في الصفحة (113) ان كمال جنبلاط وجّه رسالة إلى السفارة الأمريكية في لبنان، بعد أيام قليلة على سقوطه في الانتخابات الاشتراعية، أبلغهم فيها انه سينضّم إلى الجبهة الوطنية المعارضة لشمعون وسيعمل على تنظيم تحركات في الشوارع لإسقاط البرلمان المنتخب لتوه ولمنع التجديد في رئاسة الجمهورية للرئيس شمعون. وشملت الرسالة قولاً لجنبلاط ان شمعون استخدم مظلة «مشروع ايزنهاور» ومبدأ تحالف أمريكا مع الذين يتحالفون معها لإسقاط خصومه في الانتخابات الاشتراعية اللبنانية.
وفي رأي أبو صالح، ارتكب شمعون آنذاك الخطأ الأكبر في شؤون السياسة الداخلية اللبنانية عن طريق تجاوزه «الميثاقية» أي التوصل إلى الحلول بشأن القضايا الرئيسية اللبنانية عبر التوافق مع جميع الفئات والمجموعات المذهبية والسياسية اللبنانية.
وهذا ما يطالب به وليد جنبلاط حاليا من القيادة اللبنانية الجديدة في قانون الانتخاب، ويدعمه في موقفه هذا قادة مذهبيون آخرون فيما تدعمُ القيادة اللبنانية الجديدة جهات قوية وفاعلة أخرى في الساحة اللبنانية. هذا الأمر قد يشكل خطراً على الأمن في لبنان وقد يؤدي إلى نشوب أزمة خطيرة.
ولوّح رئيس المجلس النيابي اللبناني نبيه بري بإمكان «حدوث حرب أهلية جديدة» في حال عدم حدوث التوافق بين الزعماء اللبنانيين على قانون جديد للانتخاب.
ويشير المؤلف إلى ان الزعيم الراحل رشيد كرامي أيد جنبلاط والجبهة اللبنانية المعارضة لشمعون بقيادة كمال جنبلاط وحلفائه على الرغم من ان كرامي كان نجحَ في انتخابات طرابلس الاشتراعية لعام 1957 لأن القضية في رأيه كانت أكبر من نزاع داخلي طائفي.
كما أيد المقاومة الشعبية المعارضة الزعيم الزغرتاوي حميد فرنجية. وكان حميد خصم شمعون في انتخابات رئاسة الجمهورية لعام 1952، والمرشح الأوفر حظا للفوز لولا تدخل السفارات الأجنبية في الانتخابات الرئاسية قبل فترة قصيرة من الاقتراع. وقد انتقد سياسات كميل شمعون ضد جنبلاط آنذاك زعماء مسيحيون آخرون بينهم بيار اده وهنري فرعون والبطريرك الماروني مار بولس بطرس المعوشي.
وفي الصفحة (118) من الكتاب، يقول المؤلف انه برغم ان آل جنبلاط تزعموا جبل لبنان في القرن الثامن عشر، وإلى حد ما بعده، فانهم عجزوا، وما كان بإمكانهم، الوصول إلى رئاسة الجمهورية التي خُصصت (بواسطة ميثاق وطني أشرفت على وضعه قوات الانتداب على لبنان، بمشاركة قادة لبنان) للطائفة المسيحية المارونية. ويضيفُ قائلا ان كتابات الراحل كمال جنبلاط كانت تشير إلى اعتقاده بانه يملك الكفاءة لقيادة الجبل اللبناني الذي كان سابقاً ركيزة الدولة اللبنانية، لولا النظام الطائفي، وأن اقصاءه عن المجلس النيابي وإقصاء زعامته في الجبل يُعتبر خطأ فادحا يتجاوز الحد المقبول ميثاقيا». ولعل هذا ما يشعر به الزعيم الدرزي اللبناني الحالي وليد جنبلاط والذي يدفعه إلى اتخاذ موقف متشدد ضد أي تعديل في قانون الانتخاب اللبناني قد يفقده زعامته في هذا الجبل ونفوذه، ليس لدى الدروز فقط، بل لدى طوائف لبنانية أخرى ولبنان عموماً.
ويذكرُ أبو صالح ان كمال جنبلاط امتلك أجندة إصلاحية وردت في البنود التأسيسية للحزب التقدمي الاشتراكي الذي أسسه في الخمسينات وتحالف من خلاله (في السبعينات) مع الأحزاب اليسارية اللبنانية الأخرى ومع المقاومة الفلسطينية بقيادة الرئيس ياسر عرفات واسسوا معا «الحركة الوطنية اللبنانية» التي كانت فاعلة وقوية في الحرب الأهلية اللبنانية لعام 1975 ضد الأحزاب اليمينية اللبنانية بقيادة حزبي الكتائب والوطنيين الأحرار وجهات أخرى.
ووصلت حدة المواجهات السياسية بين كمال جنبلاط وكميل شمعون حسب المؤلف، إلى مواجهات شخصية عنيفة اتهم عبرها شمعون جنبلاط بانه مزدوج الشخصية ويعاني من الاضطراب النفسي، فيما اتهم جنبلاط شمعون بالغرور والسلطوية الفاشية والفساد وتجاوز المعايير الأخلاقية في قيادة البلد. ويعيد الكاتب هذا المستوى من المواجهات المتدنية المستوى إلى ضعف المؤسسات في النظام اللبناني وهيمنة نظام الزعامات الاقطاعية والتقليدية المستمرة حتى الساعة، والتي انخفضت، إلى حد ما، بعد انتخاب الجنرال فؤاد شهاب رئيسا للجمهورية اللبنانية بين عامي 1958 و1964، وهو الرئيس الذي انتخب بسبب اعتداله ورفضه اقتحام الجيش اللبناني في المواجهة لعام 1958 ومحاولته انشاء وتطوير مؤسسات للدولة اللبنانية خلال فترة حكمه.
ومشكلة شمعون، حسب المؤلف، أنه حاول اقصاء الزعامات الاقطاعية اللبنانية لتثبيت زعامته الشخصية على حسابهم، فيما كان شهاب يحاول إنشاء دولة لبنانية مرتكزة إلى المؤسسات اكثر من ارتكازها على الزعامات الشخصية، ورفضَ شهاب التمديد له في رئاسة الجمهورية عام 1964 إذا لم يفوضه النواب اجراء التعديلات الجذرية في النظام اللبناني، ودَعَم انتخاب الرئيس شارل حلو لمنصب الرئاسة. ولكن حلو لم يتشدد في هذا التوجه المؤسساتي الذي طمح إليه الرئيس شهاب وبقي النظام الطائفي على حاله واستمر حتى الساعة في هذا الوضع.
ويؤكد الكاتب في الصفحات (126 ـ 128) مواقفه في انتخابات عام 1957 سياسياً ومالياً. ويورد تفاصيل عن تدخل الاستخبارات الأمريكية خصوصا والبريطانية عموماً في عمليات التمويل لمرشحي شمعون، حسب ما ورد في مذكرات كتبها لاحقا مسؤول في هذه الاستخبارات سَلّم هذه المبالغ المالية للقصر الجمهوري ولقيادة شمعون شخصيا. وبالتالي، فان قضية لبنان ونظامه كانت، وما زالت حتى الآن، قضية دولية وإقليمية بالإضافة إلى كونها داخلية.
ويشير أبو صالح في الصفحة (130) إلى ان الاستخبارات المركزية الأمريكية والسفارة الأمريكية في لبنان عملتا بشكل مباشر وواضح، حسب المسؤول في الوكالة في لبنان آنذاك ويلبور ايفلاند على اسقاط ثمانية نواب لبنانيين بارزين في انتخابات عام 1957 لأنهم عارضوا «مبدأ ايزنهاور». وهؤلاء النواب كانوا صائب سلام وعبدالله اليافي ورشيد كرامي واحمد الاسعد وصبري حمادة وعبد الله المشنوق وعبدالله الحاج وحميد فرنجية. كما فرضتا على مرشحين آخرين الانسحاب لمصلحة مرشحين مقربين من المواقف الأمريكية ومن شمعون.
وفيما بعد تعاملت سفارتا أمريكا في لبنان ومصر و«وكالة الاستخبارات المركزية الأمريكية» في البلدين (بشخص مايلز كوبلاند وغيره) مع القيادة المصرية لاقناعها بتأييد الجنرال فؤاد شهاب للرئاسة اللبنانية (بعد شمعون) وقد نجحتا في ذلك.
ويختتم أستاذ العلوم السياسية سابقا في الجامعة اللبنانية والجامعة الأمريكية في بيروت الدكتور أبو صالح كتابه بإدراج وثائق تاريخية هامة عن الدروز في لبنان وسوريا وعن أدوار الدول الأجنبية في المنطقة عموما استند اليها لدعم التحليلات والوقائع الواردة في كتابه.
ويشير في الصفحات الأخيرة إلى ان أسباب نشوب أزمة 1958 في لبنان مرتبطة بالتفاوت الاقتصادي وعدم المساواة في الحقوق السياسية بين الفئات الاجتماعية والمذهبية اللبنانية، والتشبث المحلي في دعم مواقف دول إقليمية ودولية متنازعة على المصالح فيما بينها، مما قد يتجاوز الميثاقية اللبنانية بالإضافة إلى محاولات التأثير و«التدخل المسبق» بنتائج الانتخابات التشريعية اللبنانية لكي تأتي في مصلحة فئة على حساب أخرى فاعلة في الساحة اللبنانية (برغم افتقادها إلى الأكثرية العددية) كالدروز وغيرهم.